تاريخ ومزارات

في عز البرد ورغم الغياب.. عباس حلمي الثاني يترك إرثا من التحدي لا يزال ينبض في ذاكرة مصر

في ليلة شتوية شديدة البرودة من ديسمبر عام 1944، أنهى الخديوي عباس حلمي الثاني رحلته في الحياة وهو في منفاه بسويسرا، بعد أن واجه الاحتلال البريطاني بشجاعة نادرة، وترك وراءه قصة نضال لا تُنسى، جاءت وفاته في التاسع عشر من ديسمبر، مصادفة مؤلمة، فقد كانت الذكرى نفسها التي خُلع فيها من الحكم قبل ثلاثين عاما، حين انتزعت بريطانيا منه لقب الخديوي وأعلنت إنهاء حكمه لمصر.

من هو عباس حلمي الثاني

وُلد عباس حلمي الثاني يوم 14 يوليو عام 1874، وكان الابن الأكبر للخديوي توفيق، ووريث العرش من أسرة محمد علي العريقة، ومنذ سنواته الأولى، ارتبطت حياته بمصير الحكم، التحق في السابعة من عمره بالمدرسة العلية التي أنشأها والده داخل قصر عابدين، ثم سافر عام 1884 مع شقيقه إلى سويسرا حيث تلقى تعليما أوروبيا في مدرسة هكسوس، ثم واصل دراسته في النمسا بمدرسة ترزيانوم عام 1888، فتكونت لديه خلفية قوية في العلوم السياسية والعسكرية، استعدادا للدور الكبير الذي كان في انتظاره.

وفي عمر الثامنة عشرة، حصل على لقب الباشوية بصفته ولي عهد مصر، لكن الموت العاجل لوالده دفعه سريعا إلى تولي الحكم في الثامن من يناير عام 1892، تلقى نبأ وفاة والده بينما كان في فيينا، فعاد فورا إلى مصر، كما وصل إلى الإسكندرية صباح السبت 16 يناير، ثم توجه مباشرة إلى القاهرة، وتولى مهامه رسميا يوم الإثنين 18 يناير، وسط آمال شعبية كبيرة بإصلاحاته المرتقبة.

كان عباس حلمي الثاني يكن عداء شديدا للإنجليز الذين فرضوا سيطرتهم الكاملة على مصر، ومنذ اليوم الأول لحكمه بدأ بمحاولة إصلاح البلاد والتقرب من شعبها، متحديا الوجود البريطاني بكل جرأة وفي العام التالي، أقال وزارة مصطفى فهمي باشا، وهو القرار الذي أثار أزمة سياسية حادة مع لورد كرومر المندوب السامي البريطاني، مثل هذا التصرف لحظة فارقة في العلاقة بين الحاكم والشعب، حيث هتف المصريون باسمه في مسجد الحسين يوم 11 يناير عام 1893، وأظهرت الدعوات له مدى محبة الجماهير له وإعجابهم بشجاعته.

ولم تقتصر مقاومته على الداخل المصري فقط، بل توجه إلى إسطنبول ليعلن ولاءه للخلافة العثمانية، وحصل هناك على دعم السلطان عبد الحميد الثاني، الذي شجعه على مواصلة التصدي للإنجليز، وبعد عودته إلى مصر، عزز قرارات مجلس شورى القوانين برفض زيادة ميزانية الجيش البريطاني، وساند تقليص الضرائب عن الفلاحين، وشجع على توسيع رقعة التعليم في البلاد ورغم ذلك، لم يتراجع الاحتلال عن سياسته، ووجهوا له اتهامات بالتآمر مع وزرائه، وأجبروا الحكومة على الانصياع لتوجيهاتهم.

ومع اقتراب الحرب العالمية الأولى، استغل الإنجليز خروجه من مصر، وأصدروا يوم 19 ديسمبر 1914 قرار عزله من الحكم، بعد أن اتهموه بالتحالف مع أعدائهم، نصبوا عمه حسين كامل سلطانا، وأعلنوا تحويل مصر من خديوية إلى سلطنة تحت الحماية البريطانية، منهين بذلك ارتباطها الرسمي بالدولة العثمانية لكن رغم ذلك، ظل الشعب يردد هتاف عباس جاي في مظاهراته، ليبقى رمزا وطنيا للأمل والمقاومة في وجه الاحتلال.

قضى عباس سنوات طويلة في المنفى بعيدا عن بلاده، لكنه بقي رمزا لصمود الحاكم الوطني تزوج مرتين، الأولى كانت من إقبال هانم عام 1895، وأنجب منها ستة أبناء، من بينهم الأمير محمد عبد المنعم الذي أصبح لاحقا وصيا على العرش، أما زيجته الثانية فكانت من جاويدان هانم عام 1910، وانتهت بالطلاق في عام 1913 دون أن ينجب منها.

وفي ديسمبر من عام 1944، فارق عباس حلمي الثاني الحياة، ولم يتمكن جثمانه من العودة إلى مصر إلا في أكتوبر من عام 1945، بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، ودفن في مقابر الأسرة الملكية التابعة للخديوي توفيق بالقاهرة، تاركا وراءه ذكرى رجل وقف في وجه الاحتلال البريطاني دفاعا عن بلاده، ولا يزال كوبري عباس في القاهرة يحمل اسمه، كشاهد على إرثه كآخر خديوي حكم مصر والسودان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى