قراءة : حاتم عبدالهادى السيد
تجنح سمر محفوض فى قصيدتها التى أهدتها الى ميار ، دون أن تسميها الى أمومة حالمة ، وعشق للحبيب الابن ، الحبيب الوطن ، الحبيب الغائب ، الذى ترتجيه ، والتى تطلبه وترتجيه ، حيث نراها تصفه بالطفل الجميل ، أو بالابن الذى تحتويه بحنانها ، أو أنه أيقونة المدى الصادحة فى الغياب ، والمتوزّعة بين الغربة والوطن الغائب ، والنساء التى يراودنه فى أحلامه الموزعة بين : الوطن ، والمنفى ، والغياب ، وهى فى محاولاتها اليائسة ، أو فى صبرها المرير ، تحاول أن تستدعيه ، أن تجعله يفيق لينظر للحبيبة التى تتشهّاه ، أو الى الأم التى تحتضنه كبذرة ، وتنتظر هطول مطره الغامر على سمائها بالحب والحنين.
انه صوت الأنثى الموزع فى القصيدة ، حيث نراها تتنفسه حنيناً ، وتحاول أن تجعل حياته حريراً رائقاً ، فهى تتلمّس له كل الأعذار ، وتنظر عودته ، وهو فى هيامه الميتافيزيقى الكونى ، يغيب عن الحب والحلم ، لأنه مشغول ، أو ربما اختلطت عليه الأمور ، فنراه حائراً يميد فى الغياب ، وتميد هى فى استدعاء حضوره ، تخاطبه وتضمه الى صدرها ، وتعد له الشاى والشراب ، وتشاركه أحلامه الصغيرة فى هدوء الحب ، وسرمدية التّوق الى ذات تطمح فى الحياة ، لكنها موزّعة فى أطراف الكون ، تصارعه كما فراشة صغيرة تحنو على زهور الحديقة برقّة فيها محبة ، وشفقة وحنان يشبه حنان الأم الغائبة ، تقول مخاطبة نفسها متصبّرة بكل ما يفعل تجاهها :
ضميه إليك ليهدأ خوفه
ضميه ومسّدي بصوتك معاركه البريئة
وخلافاته الصغيرة
حضّري شايه
ببشارة تقتل الوقت
واذكري له تاريخ ميلاده الآن
ضميه واقرأي له آية الروح تماماً
ًكنائحة تبكي زمنا
لفّي عليه
بسملات نهرين من غيابه
شدّي بنخلك قمراً إلى عينيه
تسيّجي نحوه اختلافاً عنه
واختلافاً عن الاختلاف
شاطئي حزنه
ًكوّريه جنينا
ولديه في لوحة الزيت واضحاً
وحدة في قلبه تنهد
على شهقة الليل
ورفوف الكلام
رديه لوجهه النائم
من أول خيبة إلى خمائر الضوء
لتمتلئ الأرض بالوارثين .
هذا ونراها – عبر فعل الأمر – لذاتها – تستنهض روحها ، أو تصبرها للصبر على كل ما يفعل ، فهى تحبه ، وتتمنى عودته لكى يعيد للحديقة البهاء السامق ، ولهذا نراها تتحين الفرصة : ضميه الآن .. الآن ، ـ أى أنها تحتويه فى لحظة ضعف ، لتزيل عنه رهق الحياة والسنين ، وهى صابرة – ببهاء – وبعدم ضجر كذلك ، تحاول ترميم جروحه ، وتضميد جراحه ليعود كما كان الى عالمه الأبهى ، الأشهى لديها ، تقول :
ضميه الآن الآن
مترنحا بنجاته
صاخبا كملاك العناء
ينهض بنبع بسيط
وينسى جنوحه
قهره وأحقاده
نبات النميمة…
ويهفو بقبلة تتشاوف خلف زحام
كأن انفجار الحياة بين ساعديه
ازرعيه في حقل الماء
شرفة للأمومة
اغوي بعبق تنفسه
الغفوة والارتياب
احرسي الوقت حوله عشرين نبضا
***
هو انتصاف الظل الموشى
وانتباه المكان
انشري
له
الأغنيات
على حبل الصباح
بإصرار أحلامه المشرئبة
نحو ذاكرته
ضميه من ألف وألف منفى
لم ينم
اتركيه يغفو
لا تنشغلي فيه مشطي كوابيسه اللاحقة
خلخلي الصحو حوله
بشدوك العالي
خلخليه
لينهي قيامة في آخر مرآته
كم كان هشاً حين هزّه نرجس النوم
ضميه إليك
وليقينه
وحيرته
مهديه
لأوصاف قصيدته
أنت القصيدة المرجوة
تمهلي بفتنتك عليك
لترتاح روحه بين يديك
ومنها إليها.. إليها
رديه ليتنفس اللهب المحايد
واعبري به المجهول
على شفتيه الجائعتين
حنينه رطبٌ
اسكنيه دهرك أمومة
***
انها تتفنن فى مداعبته ، وربما فى الصبر عليه ، فهى تعلم معدنه النقى وما يحتاجه سوى الحنان – كما تصف – لذا فهى حريصة كل الوقت أن تضمه اليها ليعبر مرحلة القلق الوجودى للواقع حيث هى تنتظره وتصبر عليه حتى آخر رمق فى العالم، لذا تبدأ فى وصف انكساراته وانتصاراته ، مثل أحلامه حتى وهو فى حضنها فهو بالبراءة يعيش ويرتجى الحب وهى بطموح هائل تستدعى بغواية الأنثى ، وصبر الأم على وليدها ، وصوت سقسقة الحب بقلبها ، تستدعى الطفل الرابض بالأحلام ليعود من همومه التى جعلته هائماً ، حيراناً ، فى كون عدمى ، او مقيت ينتظر للخلاص ، وهى تراهن على خلاصه من كل همومه وتتحدى كل شىء لتعيده بحنان الأنثى الى حظيرة الحب الهادئة ، تقول :
في عينيه
انتصار
وانكسار
المقهور ببعدك
للحظة الخلق
رديه ارتجافا
ورديه
حنينا
يلون به
جسد النهار
جمرة صبر
يعيد صياغته
هو المولود بأفراح الخلاص
دمع اللحظة البكر
ظهيرة ربيع
انضحي عطرا
وغطيه
مهما استبد طفلا غريباً
يسافر
بالنار أو الهاوية…إليك
***
اشهريه ليعرف
وجهته
لونه
اسمه
اغسليه حرفاً حرفاً
من هذا الهالك الورد
انشليه في هدأة الوقت
لميّ شظاياه
لميّه
فليس يحيا بغيرك
غطي وجهه بصمت صمتك
بكلتا روحك
وعاتبيه بهدوء عميق عاتبيه
خففي من ملوحة دمعه
أسقطيه من حافة الشوق
إلى الشوق المعرش
على كفيه اراجيح
بجنون ليس يرد
احمليه إلى أعلى الدخان
أرجئيه بين احتراق
عليك وشوق إليك
تنفسيه
ضميه بأحلامك الطيبة
أواخر هذا النهار
خلسة أن تموت الذاكرة
كوني أمه الأولى
أما آن لك أن ترجعي
له قصائده والمعاني
***
اننى أشبه القصيدة بالأضمومة الرائعة ، أو بالصدر الحانى الذى يسع العالم ، ويحمله ليغسل أحزانه فى حضن الحنان الدافىء ، والصبر المنقوع بماء الصبر لانتظار ربما طال ، ولكنها لا تتأفّف من طول الانتظار ، بل نراها باصرار مدهش تعيد ديمومة دائرة الصبر الهائلة ، ودائرة الحنان المتّسعة ، لتعيد تفجير الحب فى الكون والصبر على الحبيب / المعشوق / الابن / الزوج ، الحالم والبعيد كذلك فى منفاه الاختيارى ، بعيداً عن ساقية الحنان ، أو ينبوع الحب الذى ينتظره، تقول :
دعيه بفرط طفولة
أسقطت في قصيدة
تشد السماء للغيبة النشوى
بكل رقته
انسلي رغبة الغياب من ظله
وقولي
تلك الرائحة تتأبطني
بأخطاء تخون المزاج
رديه مرتجفاً
لضحكة نبرته
نقياً لبيته الأول
حفنة من الزهر
لحرير الرحم
هو أبيض كالياسمين
نشيجه الغجري
يغزل بيت عزلته جهة الريح
يكتمل نضجه اذا وعى كينونته
سبحان
الذي يهدر الوقت
والشعر
و المدى
حول هيئته
***
اسأليه
عن أول الفعل البدائي الشائك
والجدل الاستثنائي
الأخير الفوضوي الواضح
ودبق القصيدة التالية
تنسج منديل اللغط الجميل
إلى قيامة هادئة ،
احمليه
إلى الكلمات المنتقاة
والغيرة المنتقاة
والنساء العائمات
في نعاسه
وتراتيله الخفيفة
***
ربما قطرة ماء
تجمع موج حيرته إليك
أنت حيرته
يجني الضحى في يديها
وينشر سحره
الصدى يشي بنبي
يحلم بالمطلق والخلود
في ظهره خنجر
ذاك القلب
وليله ليس بأسود
لوذي به
لوذيه بك
يشرخ جسده الماضي بسنبلة
يقيم فرحته على عادته
فتغزلين
خضرتك
طي
هطوله
انها تنتج أسطورة ، لامرأة تنتظر حبيب هائم فى عالم يشى بحلكة ، أو بماض يريد نسيانه ، لذا نراها تتشبّث به الى آخر لحظة ، وتنتظر غزل خضرتها ، حين يهطل بمطره الفيزيائى ، أو بمطره السيموطيقى ،الحائر بين دوال الكون ، والوجود والعالم.
ان – سمر محفوض – فى قصيدتها ، ربما تحدث معادلاً ضمنياً لذات سامقة ، ذات تجبرعلى الاحترام ، حيث الصبر الهائل على حبيب مغيّب ، أو غائب بفعل ذكريات ممسوسة ، مشوّهة ، لماض أليم ، لذا تحاول رتق جراح حلمه ، وغسله بنور الحب ليعود اليها ، حاملاً شعلة الحب التى انتظرت كثيراً وهى تمسك بأطرافها ، كغيمة تريد الانقشاع ، أو كسماء تنذر بمطر يهطل على فراتها ، فيحيل الاصفرار الى خضرة ، ويعيد للصحراء زهوها السامق ، وبهجتها الرائقة ، والرائعة أيضاً .
ان سمر محفوظ فى لغتها الشفافة ، تعيد رتق الحلم لتتصبّر بالوجع على حبيب لا يجىء ، لكنها توقن أنه سيعود بعد أن يتوضأ بمطر الحب ، ليهطل على بذورها ، فتنموالسنابل من جديد.
اننا أمام شاعرة تعبر بالرومانسية الى فضاء الكون لتعيد صنع أسطورة لامرأة الحب السرمدية ، لحبيبها الذى تتغيّاه مطراً ، يهطل على صحرائها الحرون المتعطشة للحب والحياة .