فنون و ادب

فلسفة الكون والحياة والحب وحكايات صغيرة للشيطان

 

حاتم عبدالهادى السيد

يأخذنا المبدع الجميل / سعيد نوح في : ” كتاب الحكايا الذى هو” – كما أسماه – إلى السيموطيقا – منذ البداية – حيث دوال العنوان الملغز ؛ وشيفراته التى نحاول تلمسها عبر الكتاب / المجموعة / الرواية / الحكايات؛ فهى كتابة عبر النوعية يأخذنا من خلالها ليمازج بين الفقهى والكونى، والصوفى، والعلمانى، بل والمتوله في الكون والعالم؛ وما بعد حداثوية الرؤية، فهو يمتاح نهجاً مغايراً ؛ يخاتلنا ، لكننا نقرأ بحذر ؛ إذ الأمر يتعلق بالخالق والخلق، الكون والعالم والحياة؛ فما هو هذا الكتاب الحكائى الذى هو؛ وكأنه يشير إلى عالم المثيولوجيا، عبر مرموزات دينية، تكشف عن رؤيوية وحودية لفيلسوف يعيد صوغ العالم، واكتشاف ماهياته الأولى، وهيولياته، وسرمديته الأبدية ؛ ومع هذا فهو يحيلنا إلى تابوهات، يحاول تفكيككها – منذ البداية – ليدخل إلى المنطقة الخطرة؛ عبر العنوان الذى رفده كمعادل سيميائى لرمزية العنوان الأكبر؛ ولعل ذلك العنوان ” الرديف ” ، قد ينسحب ليشكل رؤية بين متن العنوان الكبير، وهامش التفاصيل للعنوان الفرعى المغرى بالتفاصيل : ( حكايات صغيرة للشيطان)؛ ولنسأل عن ماهية تلك الحكايا الصغيرة لذلك الشيطان؛ وصورته المهودة في كل الأديان؛ وفى ديننا الإسلامى على وجه الخصوص .

لقد بدأ حكاياته بمخاطرة، لكنه – عبر السرد المروى للراوى الذى يسير عجلة السرد- رأيناه يتدخل أحياناً لتوجيه بوصلة السياق ؛ وكأنه ينشد تشاركية القارىء من جهة، عبر لعبة الضمائر- او أنه يريد ” افاقة القارىء؛ والسارد العميق، وتلك لعمرى أعجوبة السرد، وفيزيائية جمالياته الإدهاشية كذلك ؛ يقول : ” في البدء خلق الله السماوات والأرض، كانت السماوات والأرض تشكلان تنظيماً منسقاً منسجماً وسعيداً ، وكان لهما خمسة من الأبناء : الكبر هو شمس والذى يليه هو قمر، ثم نار وريح والأخير ضباب، وكان هناك مساء، وكان هناك صباح، ولما كبر الأبناء نشأ نزاع دائم بينهم، عند ذلك لم يجد كل من الأرض والسماء غير الدعاء لله أن يبعد الشر عن أبنائهم، وكان صباح ن وكان مساء، وانتظرا كثيراً من الوقت دون أن تأتى إشارة ” .. ولنلحظ أن السرد ينحو بداية إلى العلمية؛ فكأننا أمام باحث في مجال العلوم والكون، يسرد لنا بجمالية حكاية ” خلق الله للعالم، والكون، والحياة، لكن طبيعة الكون في تخالف؛ ربما كطبيعة البشر، وكأن النزاع بين السماوى والأرضى، والمتعاقبات : الليل، النهار، الشمس، القمر، وكذلك هناك النور والنار والضباب، الصمت والسكون وغير ذلك؛ ولعله أجاد مدخل القص الغرائبى للحكاية ليحيلنا إلى ” فلسفة وجودية ” وعلاقة الخالق بمخلوقاته، وأحاديث وفروقات، وبينيات تلك الحكاية الغريبة ، المدهشة، والجديدة أيضاً .

إنه يؤطر ” لعراك الطبيعة” ؛ومؤامراتها ؛ فهم الأبناء – كما شبههم- في عراك دائم، أو أحاديت تشتجر لتتوالد حكايات العالم، وكونية الوجود، وما بين ذلك تظهر فلسفة الكاتب العميقة التى يجمعها ايمان خالص، مشوب بمسحة عرفانية، وبتصوف غير محس، لكنه يظهر من خلال فرادة اللغة، وجماليات التصاوير، وعمق مسبار المخيال المثيولوجى، الفيزيقى، واللامتيافيزيقى، وكأننا أمام حكايات فلسفية وكونية، ورؤى يريدها الكاتب لتتحقق معادلة الخلق، والحياة .

ويبدو النَّاصَّ / السارد / الراوى العليم المتيقظ/ أكثر جرأة حينما يتحدث على لسان الخالق، وكأنه أحد أبطال الحكايات، فيشركه في عجينة السرد، ولربما أجزنا له ذلك كون الحكاية تتعلق بالخلق : آدم وحواء، الشيطان، خلق الإنسان، الكون، الحيوات، الماهيات والعدم، والفيوضات الأولى لتكوين ونشأة الحياة .

ثم نلمح قصة الخلق وغضب المولى على الشيطان، وقصة الإغواء الكبير وأكل آدم وحواء من الثمرة المحرمة وخسوفها في الأرض، وغير ذلك، وهو يروى كل ذلك في ايمانية شديدة، وتصوف، بل وبجمالية كذلك .

ثم نراه يستدعى السهروردى، وقابيل وهابيل ليطلعنا إلى النشأة الولى عبر سياقات لغة متبتلة، صارخة، وعراك بين الشيطان الثائر، والخالق القوى المتعال، الرحمن الرحيم ، ثم يستدعى سيدنا نوح قبل وبعد الطوفانن وخلق بابل ، وما جرى على الأرض، وكان الشيطان يجرى بأحاديث صارخة على لسان الراوى، وهو يقوم بالغواية، لكن الشيطان هنا يظهر ويتحدث، ويشتكى، ويجأر، وهكذا تتوالى الحكايا .

ومع جنوح الكاتب / الراوى إلى لغة المتصوفة – في بعض الأحايين- إلا أنها ” صوفية الذات” ، صوفية ” سعيد نوح” الخاصة، لا يشطح كالمجذوب عبر خرقة الغياب، بل هو حاضر طوال الوقت، عبر راوٍ يستعيد الرؤى، وينشد تماهى القارىء مع مسيرة السرد، فهو لا يقدم الجديد في الحكاية، بقدر ما يقدم السرد المغاير اللطيف، بل والسرد الذى يوصله إلى اليقين والبرهان الروحى، الحقيقة المطلقة، عبر التجرد من : ” دنس المرأة ” ، ” الحية ” ، الشيطان، وقسوة الحياة على الأرض، وغواية اللعين الأبدى .

إنه يطلعنا على محاججات الشيطان مع الخالق، وعلاقة المد والجزر، لا الضدية ، بينهما، فالشيطان يستعجب من غضب الإله، يسترحمه، ويريد التوبة، ويكابر في نفس الوقت ويعاند، وكأنه يريد أن يطلعنا إلى مكنون ذلك الشيطان عبر رحلة الإنسانية منذ آدم وحواء، وإلى يومنا هذا . وهو هنا يعبر بنا عبر ” دواخل الإيمان ” إلى الذات والماهيات، الوجود واليقين الروحى، عبر مشتهيات يدركها، فهو يجهر بأنه مؤمن ايماناً مطلقاً ، لذا فهو يغيب في الهيام، عبر رؤيوية وكشوفات يستدعيها، ويخش إلى فلكها، فلا يهمه تصوراتنا المسبقة الجاهزة عن ماهيات الأشياء، وحتى عن فكرتنا في الخالق، فهو يجاوز ذلك إلى سرمد الذات، ويغيب في الحضور ليصل بالغياب إلى مدارك، وعليين، عبر صوفية الذات، لا الإنجذاب، ” فهو تصوف الواعى ، لا الغائب” ، وتصوف العليم لا المنكر، والمقر لا الرافض لكونية الإله القدير ، الخالق العظيم، لكنه يستدعى سيمولوجيا التراث عبر الموسيقى، وكأنه يستدعى اللحن / الفطرة الكونية الأولى، وهذه هى انجذاباته الذاتية الواعية، ولعمرى – لم أر ” صوفية خاصة ” ، مثلما أراها هنا، ولا جرأة على الحديث بكونية وصفة الخالق مع الشيطان والإنسان والعالم سوى هنا – مع كونية السرد المتعمق في سيرورة الإيمان، فهو يبحث عن الجوهر عبر الماهية، وعن الماهية عبر الذات، وعن الهيولى عبر الفيزيقى، وعن اللاميتافيزيقى عبر الذاتى والكونى معاً ، وتلك لعمرى فلسفة سرد عميق، لكنها مشبوبة بلطافة حوارية، وبمسروديات غاية في التيقن والحذر، كى لا يقع في شراك المتربصين ، وفى فخاج المتأسلمين المتشددين !! .

إنها فلسفة الذات عبر مثيولوجيا الترميز، وعبر سيموطيقا ” العصفور” ، ” الغراب” ، وعبر تغايرية الرؤية : فمن يكتب التاريخ – كما يقول هو القاتل – أو غير المؤرخ – في الغالب- ، يقول : ” إن قابيل القاتل الشرير هو الموجود بيننا الآن ، في حين ان هابيل صاحب الخير والنماء هو المختفى والمفقود والمقتول … هل بعد ذلك يُطلب دليل على ان من كتب التاريخ هو القاتل الذى لم يكن أكثر من انسان اغتصب الكبر فصار من أكابر الناس .. أكابر الناس .. لماذا خلقنا أكابر وأصاغر؟ أسياد وعبيد؟ شياطين وملائكة، وبينهم بشر؟! .. بشر عاجزون وخائفون عن قول الحق، بشر يمتيهم الخوف، مع ان الخوف هو عذر سخيف لعدم القيام بالعمل الصحيح، وقول الحق ” .

ثم نراه بجرأة يتحدث عن مكر الله، ويحدثه بلغة عفوية، نابعة من يقين روحى، وبحث في الوجود، وكونية العالم، ويقينى أن القارىء للرواية هنا لابد أن يعى مدلولات الرموز، وحذر الكاتب العليم المتيقظ – طوال الوقت – لأن الرواية مخاتلة، وقد تختتل المتشددين بزعم الإيمان في وسم الكاتب بالخروج عن التدين، والمناداة بتطبيق دعاوى الحسبة والمصادرة على الرواية / الحكاية / قصة خلق الإنسان .

إنها حوارية مع الإله، و جدل يفضى إلى الحقبقة، والإيمان، ويعرج إلى البرهان واليقين، عبر عروجات صوفية، ومكاشفات حوارية، وفلسفة ذاتية خالصة، تنبع من مثاقفة للسارد مع جدليات الخلق والوجود، والعالم والكون، والحياة .

إنه يبحث عن رؤية للقيم العليا : الإيمان، الحقيقة، البرهان، عبر قيم الواقع ومادته، لا ماديته، وعبر منظومة القيم المجتمعية، والكونية، والقيم العقلية السيمولوجية التى تفضى إلى تجادليات حول النشأة والتكوين : عن الأمانة، الصدق، المرأة ، الحب، الخوف، اليقين،الحزن، الفرح، الجمال، العدم، الإيمان، الكفر، السلام والتصالح مع الذات والعالم ، وغير ذلك ..

إنها رواية / حكاية / قصة، كتابة عبر النوعية تتغيا الإنسان ووجوده عبر كونية الرؤية، وغلالة الكون، وضبابية الحياة، فهو يبحث عن كشوفات النور في الجمال، وعن النور من خلال النار، وعن الحقيقة والبرهان من خلال الأسئلة، وكأنه النفرى الحداثوى يخاطب الخالق، ويجأر ويشتكى مع وحوش البرية والظلام ليبحث عن النهار الآتى من خلف ركامات الرؤى الغائبة للحياة بكل ما فيها من أتراح وأفراح، وفيوضات تعكس مسيرة ذلك المسمى بظل الإله، أو الإنسان، لذا فهو يأخذنا عبر رواحاته إلى القرآن، والإنجيل ، والتوراة، ليؤكد صدق بدهياته؛ ومحاولته الدائمة للبحث في الكون والعالم، وداخل دواخل الإنسان.

لقد عرج بنا إلى قضايانا الحياتية ؛ بل وعرج إلى الحجر والبشر، الزروع والثمار، الحياة بما عليها من أحجار وأيائل، وصيد، وأطفال، وملوك وسادة، وعبيد وفقراء، وقال كل شىء عبر فلسفة سيميائية، وعبر كتابة عبر النوعية تندلق فيها الحياة مع هيولى الصمت والسكون والعدم، والضوء والظلام والنور، والحرية ن والحب، ولقد عبر بنا عبر المشتهى الصوفى إلى مرافىء الذات، وغرد في مناطق لم يبلغها إلا صوفى، او عارف، او مكتشف للعالم والكون والحياة .

تظل معزوفة  سعيد نوح الأجمل ، والأشهى، والأعمق، عبر قصة خلق الحياة، وعبر فيوضات الذات للبحث عن اليقين والبرهان، عن الماهية الكبرى؛ الله الخالق العظيم ؛عبر الكون والعالم والحياة .

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى