وادي قاديشا: ملاذ الروح في جبال لبنان العريقة
يقع وادي قاديشا، المعروف أيضًا بالوادي المقدس، بين منحدرات سلسلة جبال لبنان الغربية، بإطلالة ساحرة على مدينة طرابلس الساحلية. يتميز هذا الوادي بمناظره الطبيعية الخلابة، من شلالات وسواقي تفيض بالمياه، مما يضفي عليه جمالاً أخاذًا يجعله من أروع المعالم الطبيعية في لبنان.
منذ القرن الخامس، شكّل الوادي ملاذًا للمضطهدين دينيًا، حيث لجأ إليه الكثيرون ليجدوا في كهوفه ومغاوره مكانًا للعبادة والتأمل. احتضن الوادي أديرة وكنائس صغيرة محفورة في الصخور، زُينت جدرانها برسوم جصية تعود إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ومن أبرز الأديرة التي شُيدت هنا دير قنوبين، الذي كان مقرًا للبطاركة الموارنة من عام 1400 إلى عام 1790م. دُفن فيه رفات سبعة بطاركة في كنيسة صغيرة، حيث نقشت أسماؤهم على لوحات تذكارية بالسريانية، إلى جانب دير مار اليشا، الذي يُعد مهدًا للرهبنة المارونية اللبنانية منذ العام 1695، ودير مار أنطونيوس قزحيا، الذي شهد ولادة أوّل مطبعة في لبنان في القرن السادس عشر.
بجوار وادي قاديشا، تقع غابة أرز الرب الشهيرة بالقرب من بشري، وتحتضن نحو 300 شجرة أرز، تتراوح أعمارها بين مئتي وألف عام، بارتفاعات تتجاوز 35 متراً. استخدمت أخشاب الأرز منذ العصور القديمة في بناء الهياكل، كهيكل سليمان، وصناعة السفن. المصريون القدماء استخدموها أيضًا في صناعة التوابيت واستخراج زيت الأرز لتحنيط موتاهم.
مع مرور الزمن، اختفى معظم غابات الأرز بسبب التصحر، لكن بعض المحميات حافظت على بقاء هذه الشجرة الرمز، مثل محمية الأرز قرب بشري، وأرز الشوف، وغابة تنورين، وحرش إهدن قرب حدث الجبة، وأشجار الأرز في جاج قرب اللقلوق.
توفر المنطقة للسياح فرصًا رائعة للاستمتاع برياضات الشتاء، حيث يمتد موسم التزلج إلى أربعة أشهر. كما تقدم أنشطة صيفية متنوعة، مثل المشي في الطبيعة، وتسلّق الجبال، ما يجعلها وجهة مثالية لهواة المغامرة على مدار العام.
القرى التي تحيط بالوادي على ضفافه العليا تعبّر عن نمط الحياة الريفية اللبنانية، حيث تتجسد فيها العادات الدينية والثقافية الأصيلة. ومن هذه القرى انطلق الكاتب والفنان العالمي جبران خليل جبران، الذي ولد هنا ودُفن في هذه الأرض التي ألهمته، بعد نقل جثمانه من نيويورك، ليبقى قريبًا من وادي قاديشا، مهد إرثه وذكرياته.