زبيدة بنت جعفر.. زوجة هارون الرشيد التي حولت العطاء إلى إرث خالد
كانت زبيدة تتمنى منذ صباها الزواج من ابن عمها هارون الرشيد، وها قد تحقق حلمها مع عودته من ميدان المعركة منتصرًا مع والده الخليفة المهدي، لتعيش فرحتين، فرحة النصر وفرحة الزواج من الرجل الذي خفق له قلبها. ارتدى الجميع أبهى الحلل، وانتشرت الروائح العطرة في الأجواء، حيث زينت زبيدة بالجواهر، واحتفل العرب بأعظم عرس لم يروا له مثيلًا.
ومع مرور الأيام، ازدهر حب زبيدة وهارون، فملأت قلبه بذكائها ولباقتها حتى أصبح لا يطيق فراقها. وبعد فترة أنجبت ابنهما “محمد الأمين” الذي منحته كل عطفها واهتمامها، وكانت شديدة الحرص على راحته وتعليمه. فحينما كان مؤدبه الكسائي قاسيًا عليه، أرسلت إليه جارية برسالة تطلب منه أن يترفق بالأمين، وتذكره أن هذا الابن هو ثمرة فؤادها وقرة عينها.
وعندما تولى هارون الرشيد الخلافة، ازدهرت الخيرات، وازدادت رقعة البلاد، ليخاطب الغمامة قائلًا: “أمطري أينما شئت، فإن خراجك سيأتيني”. وتقديرًا لدورها كزوجة الخليفة، رأت زبيدة أن تسهم في رفاهية المسلمين؛ فعند حجها إلى مكة سنة 186هـ، لاحظت صعوبة حصول الناس على ماء الشرب، فأمرت بإنشاء بئر عرفت ببئر زبيدة، حيث جمعت المهندسين والعمال وقالت لخازن أموالها أن ينفق بلا حساب حتى إن كانت ضربة الفأس بدينار، وأقامت بذلك مشروعًا خيريًا يستفيد منه أهل مكة والحجاج.
لم تكتفِ زبيدة بهذا العمل الخيري، بل شيدت المساجد والمباني لخدمة المسلمين، كما قامت بإنشاء آبار ومرافق على طول طريق بغداد، ليستريح المسافرون. وكانت تتمنى لابنها الأمين أن يتولى الخلافة بعد والده، إلا أن الرشيد فضل المأمون نظرًا لذكائه وصبره، مما دفع زبيدة لمناشدته، فأوضح لها أن الخلافة تكليف يحمله من يستحقه، وأن ابنها الأمين ليس الأنسب رغم محبته له، لكنه في النهاية قرر أن يجعل الأمين وليًّا للعهد، ثم المأمون من بعده.
وبعدما قتل الأمين في الصراع على الخلافة، دخل المأمون بغداد، واستقبلته زبيدة بتهنئة نبيلة، قائلة إنها وإن فقدت ابنًا، فقد عوضها الله بابنٍ آخر لم تلده، مما أثار إعجاب المأمون وعبّر عن تقديره لأمٍ عظيمة كهذه.
عاشت زبيدة حياة ملؤها الخير والبر، حتى توفاها الله في بغداد سنة 216هـ، تاركة خلفها إرثًا خالدًا من العطاء.