د.محمد السعيد إدريس يكتب :نصيحة «فريدمان» وأزمة الردع الإسرائيلى
د.محمد السعيد إدريس يكتب :نصيحة «فريدمان» وأزمة الردع الإسرائيلى
قبل أيام قليلة من العدوان الإسرائيلى على القنصلية الإيرانية فى دمشق الذى أدى إلى مقتل سبعة من كبار العسكريين الإيرانيين، كتب توماس فريدمان الكاتب البارز فى صحيفة «نيويورك تايمز» والصديق المخلص لإسرائيل ورئيس حكومتها بنيامين نيتانياهو، مقالاً مهماً حلل فيه تداعيات حرب الإبادة التى تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة على الصورة الذهنية فى العالم لكيان الاحتلال الإسرائيلى من أكذوبة الدولة الديمقراطية ذات الامتداد الحضارى الغربى، إلى دولة باتت «منبوذة» عالمياً، وعلى مصداقية «قوة الردع الإسرائيلية» التى خسرت جدارتها وفشلت فى تحقيق انتصار أو حتى «شبه انتصار» على حركة «حماس» وحلفائها فى «محور المقاومة»، وخلص، فى مقاله، إلى نصيحة ذهبية «لإسرائيل» وجهها إلى من يحكمون فى تل أبيب تقول: «أوقفوا إطلاق النار، وغادروا غزة، واستعيدوا الرهائن، وأعيدوا التفكير فى كل شىء».
الرسالة وصلت، كما يبدو، إلى بنيامين نيتانياهو الذى فهم منها أنها تعنى شيئين؛ أولهما أن يعترف نيتانياهو بالهزيمة فى غزة، وأن يسحب قواته، وينسى كل ما استهدفه من حرب الإبادة التى شنها ضد قطاع غزة، وأن يتوقف عن مخططه لغزو مدينة رفح. ثانيهما أن يقدم نفسه طواعية للمحاسبة والمحاكمة الجنائية التى ظل يتهرب منها، وهذا كله يعنى شيئاً واحداً هو الإجهاز الكامل على المشروع السياسى له شخصياً، وأن يأذن بـ «الأوساخ والقاذورات» أن تنهال على تاريخه السياسى الممتد. ولأن نيتانياهو مستحيل له أن «يتجرع السم» لأنه لا يقدر على ذلك، ولا يملك الشجاعة عليه، فقد فكر فى بديل للإنقاذ، وهو الهروب إلى الأمام، وفرض حربا إقليمية تشارك فيها الولايات المتحدة والحلفاء الغربيون والعرب، إن أمكن ، ضد إيران لتدمير قدراتها العسكرية، وإعادتها إلى «نقطة الصفر». نيتانياهو، يعرف عن وجود «توافق أمريكى – إيراني» على تجنب توسيع حرب غزة إلى حرب إقليمية. الولايات المتحدة لها أسبابها ومصالحها فى تجنب التورط فى مثل هذه الحرب فى هذا الوقت بالذات، سواء بسبب استنزافها فى «حرب أوكرانيا» ولعلمها بجدية التحالفات الاستراتيجية الإيرانية مع الصين وروسيا، ولإدراكها قوة إيران وحلفائها على إلحاق تدمير غير مسبوق بكيان الاحتلال الإسرائيلى، ومن ثم إنهاء دوره الوظيفى الاستراتيجى لخدمة المصالح العليا الأمريكية، أو بسبب التحديات والصعوبات الهائلة التى تواجه الرئيس الأمريكى جو بايدن انتخابياً أمام منافسه «اللدود» الرئيس السابق دونالد ترامب فى الانتخابات الرئاسية التى ستجرى فى نوفمبر المقبل. كما أن إيران لها مصالحها، هى الأخرى فى تجنب التورط فى حرب إقليمية موسعة مع الولايات المتحدة، أولاً للأولوية القصوى التى يحظى بها البرنامج النووى الإيرانى، وتصبح إيران رسمياً «قوة نووية» تملك القنبلة النووية، أو قادرة على صنع هذه القنبلة، ومن ثم تحقق قدرات «الردع الاستراتيجى» وأيضاً لحرص إيران على عدم تمكين نيتانياهو من انتصاره فى غزة، والحفاظ على الانجاز الهائل الذى تحقق على صعيد «الإساءة البالغة لصورة إسرائيل عالمياً، وعدم تمكين إسرائيل من التحول من دولة «عدوانية منبوذة» إلى دولة معتدى عليها وتواجه حرب إبادة من إيران، التى ستحولها الدعاية الصهيونية إلى «خطر على الأمن والسلام العالمي».
لكل هذه المبررات حرصت كل من واشنطن وطهران على الحيلولة دون توسيع حرب غزة إلى حرب إقليمية يأملها ويسعى إليها بدأب ، بنيامين نيتانياهو الذى يدرك منذ سنوات طويلة مضت، عجزه منفرداً دون مشاركة أمريكية ، فى شن الحرب التى يأملها ضد إيران. من هنا جاء العدوان على القنصلية الإيرانية فى دمشق، ومن هنا أيضاً جاء الرد الإيرانى القوى والمحسوب على هذا العدوان فجر الأحد (14/4/2024) فى هجوم غير مسبوق من الأراضى الإيرانية بالصواريخ المسيرة التى وصلت إلى عمق كيان الاحتلال، والتى لم يستطع كيان الاحتلال إخفاء خطورتها، رغم مزاعمه وانسياق أبواق عالمية وعربية، بوصف هذا الهجوم الإيرانى بأنه «مسرحية هزلية» بدليل الإرباك والصدمة والاجتماعات المفتوحة لوزارة الحرب للتفكير فى كيفية الرد على هذا الهجوم الإيرانى الذى ضرب قاعدتين عسكريتين شاركتا فى العدوان على القنصلية الإيرانية فى دمشق هما قاعدة «نيفاتيم» الجوية، وقاعدة «النقب» الجوية. كانت المعضلة هى تعقد حسابات إيران ومخاوف «الرد على الرد» الذى يجب أن يحقق ما يعرف بـ «تكافؤ الرد» وسط رفض أمريكى قاطع لأى هجوم إسرائيلى على إيران. وجاء الهجوم الإسرائيلى على أصفهان صباح الجمعة الفائت (19/4/2024) ليكشف «هزلية» هذا الرد وعجزه. فقد أنهى الرد الإيرانى سياسة «الصبر الاستراتيجى» وفرضت إيران نفسها دولة مواجهة مباشرة مع كيان الاحتلال وليس عبر الوكلاء، فى وقت تأكد فيه أن هذا الكيان أضحى عاجزا عن الدفاع عن نفسه وأن الحليف الأمريكى لم يعد مستعدا للتورط فى مكائد إسرائيلية لا تتوافق مع الحسابات الأمريكية الإستراتيجية بعد أن تدنت ثقته فى قدرة إسرائيل على القيام بالوظائف التى أنشئت من أجلها بعد أن تصدعت نظرية الردع الإسرائيلية.