ميادة إبراهيم رزوق تكتب :الرواية الفلسطينية إلى الواجهة في دحض الرواية الصهيونية!
ميادة إبراهيم رزوق تكتب :الرواية الفلسطينية إلى الواجهة في دحض الرواية الصهيونية!
الشائع أن المنتصر يكتب التاريخ، أي أن روايته لما حصل هي التي تسود وتنتشر بين الناس بمن فيهم المهزومون، وهذا ينطبق إلى حد كبير على التاريخ الفلسطيني المعاصر، وتحديداً حرب عام 1948 عندما احتلت فلسطين، حيث تقول الرواية الصهيونية إن سبعة جيوش عربية (مصر وسورية والأردن والعراق ولبنان والسعودية وجيش الإنقاذ) بكامل عتادها وعدّتها قررت الهجوم على “الدولة” الصهيونية الوليدة وحاولت سحقها، وطلبت من الفلسطينيين أن يتركوا منازلهم لكي يمهدوا للعمليات العسكرية، فانقلب “عدوانهم” على الكيان الصهيوني الوليد والضعيف هزيمة نكراء، وهرب أغلب الفلسطينيين من بيوتهم خوفاً وجزعاً واستجابة لطلب قادة الجيوش العربية.
ويهدف الصهاينة من هذه الرواية تبرئة أنفسهم؛ فهم لم يطردوا أحداً من مكانه ولم يرتكبوا إلا بضع مجازر معدودة على اليد الواحدة لإخافة الآخرين، وأيضاً ليقولوا إنهم انتصروا بالرغم من ضعف عددهم وعدتهم، وهذا دليل على التأييد السماوي لهم ولمشروعهم، وهنالك جانب آخر وهو تأكيدهم على دونية العرب الذين مهما تفوقوا بالعدد والعدة فإنهم لن يستفيدوا من ذلك، ولن يهزموا الصهاينة أبداً.
علماً أن الحرب لم تبدأ في هذا التاريخ، “وهو تاريخ انتهاء الانتداب، أي الاحتلال البريطاني ودخول الجيوش العربية”، بل قبله بكثير، وكان تأسيس المستعمرات قد بدأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أما تحضيرهم للحرب فبدأ في بداية عشرينيات القرن الماضي، بداية الاحتلال البريطاني، وقد بشر جابوتنسكي بالخيار المسلح ضدّ الشعب الفلسطيني في مقالته الشهيرة “الجدار الحديدي نحن والعرب” عام 1923، في الوقت الذي حرصت الجماعات الصهيونية على إدخال السلاح وتخزينه، ولعل إحدى الأحداث التي نبهت الشهيد عزّ الدين القسام للخطر الصهيوني هو انكشاف براميل متفجرات كان الصهاينة يحاولون تهريبها عبر ميناء حيفا، مع مساعدة البريطانيين على توفير الغطاء للتسلح الصهيوني من خلال حرس المستعمرات، بالإضافة إلى إنشاء الفيلق اليهودي في الجيش البريطاني، الذي حارب في الحرب العالمية الثانية واكتسب المقاتلون فيه الخبرة والتدريب الكافيين لينضموا لاحقاً إلى العصابات الصهيونية في فلسطين.
وبحلول عام 1947 امتلك الصهاينة ترسانة كبيرة من الأسلحة برعاية وتواطؤ بريطانيا، في حين أن الفلسطيني كان ممنوعاً من امتلاك السلاح، وكان يحكم عليه بالإعدام لو ضبطت بحوزته أيّ قطعة سلاح، وقد قمعت بشدة قبل ذلك بأعوام قليلة الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) حيث قتل أو أعدم أغلب قادة الثوار، فبدأت الهجمات الصهيونية أواخر عام1947 بعد قرار التقسيم، عبر هجمات متفرقة كانت تشنها العصابات الصهيونية على القرى والمدن الفلسطينية، وكان يتم الرد عليها، إلا أنه مع مرور الوقت كان يتكشف حجم الخلل الكبير في ميزان التسلح بين الجانبين.
فقد لجأت عصابتا الشتيرن والأرغون الصهيونيتان إلى أسلوب السيارات المفخخة مستهدفة الأسواق العربية والمقرات الحكومية التي تخدم السكان الفلسطينيين، ففجرت مقر الحكومة في يافا في كانون الثاني/ يناير 1948. ومع اقتراب موعد انتهاء الاحتلال البريطاني ارتفعت وتيرة الهجمات، وبدأت عصابة الهاغانا، وهي العصابة الصهيونية الأكبر، والتي أصبحت نواة جيش الاحتلال، بتنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق لاحتلال المدن والقرى الفلسطينية وطرد سكانها ضمن ما يعرف بـ”الخطة دالت” Plan Dalet)) ابتداءً من آذار/ مارس 1948.
فتم أولاً احتلال طبريا في 18/4/1948، ومن ثم حيفا في 22/4/1948 بعد قصف شديد للأحياء الفلسطينية فيها، ثم ملاحقتهم بنيران البنادق والمدفعية حتى خرجوا عبر الميناء، واستشهد أكثر من 300 من سكان المدينة أثناء هذه العملية، وحين حاول بعض سكان المدينة اللجوء إلى معسكر للجيش البريطاني قرب الميناء رُفض استقبالهم، تلا ذلك احتلال مدينة يافا، أكبر المدن الفلسطينية وعاصمتها الاقتصادية في 26/4/1948، واليوم أكثر من 15% من اللاجئين الفلسطينيين هم من مدينة يافا، التي طرد سكانها بالطريقة نفسها التي طرد بها سكان حيفا.
واحتلت صفد في 11/5/1948، أما عكا فقد احتلت في 16/5/1948 بعد حصار دام حوالي ثلاثة أسابيع، أما القرى التي تعرض أهلها للتهجير خلال هذه الفترة فهي كثيرة ولسنا بصدد حصرها، لكن لا بد من الإشارة إلى أن مجزرة دير ياسين في 9/4/1948، وهي الأشهر، ليست الوحيدة، فقد ارتكبت خلال الحرب أكثر من سبعين مجزرة موثقة، ومنها مجزرة بلدة العباسية، والتي هجر أهلها في مرحلة مبكرة جداً في 13/12/1947، فكانت النتيجة أن أكثر من ثلث الشعب الفلسطيني قد تشرد قبل إعلان قيام (دولة إسرائيل) 14/5/1948، وقبل انتهاء الاحتلال البريطاني وبدء دخول الجيوش العربية 15/5/1948، ويشكل أولئك أكثر من نصف اللاجئين الفلسطينيين اليوم.
فكيف يضعون تاريخ بداية الحرب في 15/5/1948، وقد تشرد قبلها كلّ هذه الأعداد، واحتلت أهم المدن الفلسطينية وعلى رأسها العاصمة الاقتصادية يافا؟ على عكس ما توحيه عبارة سبعة جيوش عجزت عن الانتصار على الجيش الصهيوني، فإن الحقائق والأرقام المتعلقة بحرب عام 1948 تكشف لنا عن خلل هائل بميزان التسلح وعدد القوات لصالح الصهاينة، حيث بلغ تعداد قوات الهاغانا الصهيونية أواخر عام1947 ما بين 40 ألف و50 ألف مقاتل، ارتفعت في بضعة شهور إلى حوالي 100 ألف مقاتل أو أكثر، منهم 20 ألف يهودي أحضروا للقتال من خارج فلسطين، وفي المقابل لم يتجاوز عدد القوات العربية مجتمعة الـ 35 ألف مقاتل على أكثر تقدير، مع الإشارة إلى أنه حتى تاريخ 16/5/1948 لم يقف بمواجهة العصابات الصهيونية سوى بضع مئات من مقاتلي تنظيم الجهاد المقدس بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني، وثلاثة آلاف مقاتل هو تعداد جيش الإنقاذ الذي دخل في بدايات عام 1948، وكانوا قوات غير نظامية وغير مزودين بأي سلاح ثقيل يعتد به، والجيوش العربية كانت أقرب إلى قوات الدرك والحرس الوطني من كونها جيوشاً حقيقية، وأهم جيشين، المصري والعراقي، كانا يقاتلان مئات الكيلومترات بعيداً عن قواعدهما، وكانت بعض تلك الجيوش تحت الوصاية البريطانية مباشرة، غلوب باشا وقيادته المباشرة للجيش الأردني بين عامي 1939 و1956 نموذجاً.
ففي الوقت الذي كان الصهاينة يملكون الدبابات والطائرات والمدفعية واستخدموها بالقصف والتدمير وعمليات التهجير الواسعة، كانت المدفعية التي تمتلكها الجيوش العربية أقل عدداً وفعالية، ووفق كتاب الدكتور شريف كناعنة “الشتات الفلسطيني: هجرة أم تهجير”، وبحث الدكتور وليد الخالدي في أرشيف الإذاعات والبيانات المتوفرة من تلك الفترة فلم يجد بينها أيّ دعوة من القيادة الفلسطينية أو العربية للمغادرة أو الهجرة، بل وجد بيان للعصابات الصهيونية يتهم الجيوش العربية باتخاذ المدنيين الفلسطينيين دروعاً بشرية، ونلاحظ أن الاتهام الصهيوني هنا نفسه يتكرر بشكل دائم، على سبيل المثال في حرب تموز/ يوليو 2006 وحربي غزة الأولى والثانية، وكذلك الأمر في حرب طوفان الأقصى.
وتشير العديد من الوثائق الحكومية البريطانية، والتي كُشف عن الكثير منها، إلى حقيقة أن الفلسطينيين كانوا يتعرضون لهجمات قاتلة من قِبل العصابات الصهيونية في الأشهر الأخيرة للاحتلال البريطاني، ووصف أحد التقارير القادة الفلسطينيين أنهم خذلوا المواطنين بأن طلبوا منهم الصمود في وجه الهجمات الصهيونية ثم لم يستطيعوا فعل شيء لإنقاذهم، وإن كانت مجزرة دير ياسين هي الأشهر كما ذكرنا سابقاً، إذ استشهد فيها أكثر من مئة فلسطيني، إلا أنه تلاها مجازر أكثر وحشية مثل مجزرة الدوايمة في الخليل التي استشهد فيها أكثر من 250 فلسطيني وألقيت جثثهم في آبار المياه، ومجزرة الطنطورة في حيفا والتي تراوح عدد ضحاياها ما بين 130 و300 شهيد.
ولعل الطريقة التي طرد بها أهل اللد والرملة تؤكد بشكل لا يرقى إليه الشك النوايا المبيتة للتطهير والطرد، فبعد استسلام أهالي المدينتين للقوات المهاجمة كان من شروط الاستسلام أن لا يتم طرد السكان، إلا أن القوات الصهيونية قامت بتجميع عدد كبير من الرجال والشيوخ والأطفال من الذكور في مسجد دهمش، وأغلقت عليهم الأبواب وألقت عليهم القنابل من النوافذ ثم دخل الجنود وأجهزوا على الجرحى ومن لم يقتل من الرجال، وقدَّرت بعض الروايات عدد الذين استشهدوا في مسجد دهمش بمئة، فيما ذهبت روايات أخرى إلى 170 شهيداً أو حتى 300 شهيد، وبعد المجزرة نادى الصهاينة بمكبرات الصوت على أهالي المدينة بضرورة أن يغادروها حتى لا يحصل لهم ما حصل لمن كان في مسجد دهمش، إلا أن الاستجابة كانت قليلة، وفي اليوم التالي أحضر الجنود الصهاينة الحافلات والشاحنات وقاموا بإخراج الناس من بيوتهم بقوة السلاح ومنعوهم من أخذ أيّ شيء من متاعهم الشخصي، وألقوا بهم عند خطّ الجبهة على الطريق المؤدية إلى رام الله، واستمرت عملية التطهير هذه حوالي ثلاثة أيام، وبالتالي كان هناك منهجية شبه ثابتة في عمليات التطهير؛ تبدأ بقصف عنيف بالمدفعية والطيران يضطر قسم من السكان للهروب، ثم مهاجمة القرية أو المدينة وقتال المقاومين والاستيلاء عليها، وبعدها يتم طرد من تبقى من السكان (وفي بعض الحالات كان يتم قتلهم)، وفي أكثر من حالة كان جميع السكان المتبقين في القرية من كبار السن الذين لم يستطيعوا الهرب، لكن ذلك لم يشفع لهم عند القوات المهاجمة.
وبالتالي ما حصل هو عملية تطهير عرقي ممنهجة ومقصودة من أجل إبقاء أغلبية يهودية على الأرض، حيث خاض الفلسطينيون قبل دخول الجيوش العربية حرباً لا يملكون فيها ما يكفي من سلاح للصمود في وجه مجازر منهجية ارتكبها الصهاينة الواحدة تلو الأخرى بدون رادع. فجاءت الهزيمة والاحتلال نتيجة لمجموعة من الأسباب المركبة والمتداخلة منها أخطاء تكيتيكة واستراتيجية ارتكبت سواء في إدارة العمليات أو التصور العام لإدارة الحرب مع العصابات الصهيونية أم ثقة القيادات السياسية بالاستعمار البريطاني، بالإضافة إلى الفارق الكبير في عدد القوات وتسليحها وخبرتها الميدانية والعسكرية، فلم يكن لدى الدول العربية أيّ تصور عن حجم القوة الصهيونية قبل بدء الحرب، ودخلوا فلسطين وهم يظنون أنهم في نزهة للقضاء على العصابات الصهيونية، وبعد الهزيمة لم يكن لديهم تصور حول الخطوة التالية.
ولكن فيما بعد لم تتوقف المقاومة الفلسطينية وبأشكال مختلفة عن العمل والسعي لتحرير فلسطين وخاصة في غزّة التي تمنّى إسحاق رابين أن “ينام ويستيقظ ويراها وقد غرقت في البحر”، وقد عبّر عن حلمه هذا في اجتماع لمجلس الوزراء الصهيوني، في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987التي كانت غزّة موطنها الأول، وبعد أن استخدم العدو كل أنواع القتل والقمع والتنكيل لإخمادها.
لقد كان انتصار تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 مرحلة مفصلية في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني، إلا أنّ ما جرى بعد هذا الانتصار مثّل انحرافاً عن خط المواجهة مع كيان العدو الصهيوني، بل وعُقدت اتفاقات صلح وسلام وتطبيع معه، وتم التخلي عن القضية الفلسطينية من قبل الأنظمة العربية الرجعية الواحد تلو الآخر والنظام الرسمي العربي الذي أصبح التزامه بها شكلياً فقط، وهو ما جعل الشعار الفلسطيني اليائس (يا وحدنا) يبدو شبه واقعي رغم بقاء القضية الفلسطينية هي قضية الشعب العربي الأولى والمركزية، لكن القيادة المتنفذة في منظمة التحرير كانت قد انساقت بدورها وراء أوهام “الحل السياسي” منذ السبعينيات.
كانت الانتفاضة الأولى، والعامل الديموغرافي والاستبسال الفلسطيني الذي أفشل العنف الصهيوني، وما تلاها، تمثّل ضغطاً واضحاً على الكيان الصهيوني للبحث عن حل، مع عمل دؤوب لآلته الإعلامية مع الإعلام الغربي لتكريس صورة الكيان الصهيوني حتى في ذهن الشعوب الغربية، صاحب كذبه “أرض بلا شعب” و”الواحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”، علما أن كيان الاحتلال الصهيوني هو كيان عنصري، يحرم العرب الفلسطينيين في أراضي الـ 1948 من كثير من الحقوق وتولي المناصب، ويكرس نفسه يوماً وراء آخر كدولة “يهودية” عنصرية، وهو في أراضي 1967 (كما في أراضي 1948) كيان احتلال يمارس القمع والعنف والإبادة كلّ يوم، بل وكل ساعة، ويعقبها بحروب كاملة كعدوانه المستمر على غزّة، أو مجزّأة في مخالفة وقحة للقانون الدولي والمعايير “الغربية” لحقوق الإنسان. وهو نظام فصل عنصري “أبارتايد” في فلسطين التاريخية بشقّيها 48-67 والتي يتساوى فيها عدد السكان الفلسطينيين بعدد اليهود رغم كل سياسة جلب المهاجرين.
ومع ذلك فشلت كل السياسات التي اتّبعها كيان الاحتلال الصهيوني للتخلّص من عبء الديموغرافيا الفلسطينية وتطوّر الصراع، والتي لم يكن من ضمنها الموافقة على دولة فلسطينية مستقلّة والانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلّة إلى حدود الرابع من حزيران عام 1967، ورغم “أوسلو” التي أوجدت سلطة فلسطينية “وظيفية لخدمة أمن كيان الاحتلال”، وأعطت نتائج عكسية وصولاً إلى معركة “طوفان الأقصى” من بعد “سيف القدس” بكلّ دلالاته على العدوّ منذ قيام الكيان، المعركة التي كشفت فشل كل سياسات الاحتواء بالقمع والحصار، والاحتواء بتجاهل القضية الفلسطينية وتجاوزها إلى التطبيع، وفشل نموذج “شارون”، “نتنياهو” وقبلهما نموذج “رابين”، “بيريز”.
ومع غياب الفوارق المدّعاة بين اليمين واليسار، وفشل “أوسلو” و”الشرق الأوسط الجديد”، بدا أنّ تطور الصراع بما في ذلك العامل الديموغرافي، يتطلّب الانتقال إلى التهجير الفلسطيني مجدداً الذي قام عليه الكيان الصهيوني ، وكان التنفيذ بالعدوان علّى غزّة الذي استدعى استخراج خطة قديمة يماثل تماماً تحقيق أمنية رابين في غرق غزّة في البحر، وكان تنفيذ هذه الخطة يقتضي غطاءً شاملاً غير مسبوق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الأساسية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، ورخصةً مفتوحةً للقتل والإبادة والحصار الشامل ومنع الغذاء والدواء عن سكّان غزّة، وتهجيراً قسرياً من خلال الضغط على الدول العربية وفي مقدّمتها مصر، وأصبح كيان الاحتلال الصهيوني أمام تهديد وجودي، يمكن أن يؤدّي إلى زواله، يقتضي التهجير، وتهديد وجودي إن فشل في التهجير.
كما أنّ المؤشرات لخطة التهجير بدأت مع بدء مراكز الدراسات والأبحاث الصهيونية في الفترة ذاتها، أي بداية تسعينيات القرن الماضي، الاهتمام بالدراسات الديموغرافية وتأثيرها على الصراع العربي-الصهيوني والقضية الفلسطينية ومستقبل (إسرائيل)، وهي دراسات سبّبت الرعب في كيان الاحتلال الصهيوني عندما بيّنت أنّ اليهود سيصبحون في العقد الثالث من القرن العشرين أقلية في فلسطين التاريخية وأنّ الفلسطينيين سيصبحون الأغلبية من دون عودة اللاجئين، ناهيك عما يخلقه التحوّل الديمغرافي في أراضي 1967 من عبء متعدّد الجوانب على الاحتلال بما فيها استنزاف صورة (إسرائيل) المزعومة في الغرب، لذلك ترافقت الدراسات الديمغرافية مع خطط ودراسات وتصوّرات للحل من مراكز أبحاث “إسرائيلية” تضمّنت خيارات متعدّدة لمعالجة هذا الخلل، منها استجلاب مزيد من اليهود والمستوطنين إلى فلسطين المحتلة وهو أمر لم يعد بالسهولة القديمة، بل ومع هجرة معاكسة وإن كانت محدودة. وركّزت الدراسات على تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على بيوتهم وأراضيهم. وقد تنبّأ بعض هذه الدراسات بنهاية (إسرائيل) إن لم تتم معالجة التحوّل الديموغرافي لصالح الشعب الفلسطيني والخلل الذي يتسبّب به في معادلة الصراع، وكان بعض الدراسات قد أشار إلى المراحل التي مرّ بها الكيان الصهيوني منذ قيامه، بدءاً من المرحلة الأولى التي كانت فيها (الدولة) المحاطة بجيوش عربية معادية مهدّدة بوجودها رغم تفوّقها بالسلاح التقليدي والحماية الأمريكية، إلى المرحلة التي اختفى فيها هذا التهديد مع السماح لكيان الاحتلال بامتلاك سلاح نووي وعدم السماح للعرب بامتلاكه، وحتى ظهور العامل الديموغرافي الذي حيّد السلاح النووي وأصبحت المقاومة الفلسطينية بأنواعها ومراحل تطوّرها المتسارع أكثر رعباً للمستوطنين من الطيران “الإسرائيلي” الذي تحوّل في كثير من الأحيان إلى مجرّد مسدس لاغتيال القيادات الفلسطينية أو أداة لقتل النساء والأطفال والشيوخ والمدنيين العزّل وإلى استنزاف للصورة المزعومة للكيان الصهيوني لدى الغربي بل الضمير الإنساني كله.
واعتبرت هذه المرحلة منذرة بنهاية كيان الاحتلال، وفي هذه المرحلة ولدت خطط التهجير وحتى خطة غزو العراق التي اعتبرتها الدراسات أقرب الدول إمكانية للحصول على السلاح النووي.
فبدأت فكرة “إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل” تموت مع إدراك الصهاينة أنّ التفوّق الديموغرافي العربي كفيل بهزيمة القوة الصهيونية العاتية، خاصة بعد تجربة الدخول إلى لبنان واحتلال جنوبه واضطرار كيان الاحتلال للانسحاب مهزوماً منه، للانتقال لمقاربة جديدة طرحها شيمون بيريز في كتاب بعنوان “الشرق الأوسط الجديد” عام 1994، تكون فيه “إسرائيل العظمى” التي تهيمن بنفوذها الأمني والاقتصادي على وطن عربي ممزّق من خلال التطبيع، بديلة لـ”إسرائيل الكبرى” تستفيد من الديموغرافيا اقتصاديا، يداً عاملة وسوقاً، بدلاً من مواجهتها مقاومةً وقتالاً.
لكن المشكلة بقيت في القضية الفلسطينية التي لم تفكّر كل الدراسات والمراكز والاتجاهات السياسية والحزبية الصهيونية في مقاربتها من زاوية الحل والانسحاب من الأرض ولو بمفهوم “حل الدولتين” وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل الأرض المحتلة عام 1967، والنقطة هنا هي تسليط الضوء على رفض العدو أي شكل من “الحل السياسي” فلسطينياً، مع التأكيد على عروبة أرض فلسطين من البحر إلى النهر منذ آلاف السنين، وعلى الحق العربي التاريخي فيها، وعلى رفض أي شكل من أشكال “الحلول السياسية” معه.
مع بداية الألفية الثالثة، بدأ العمل على تنفيذ رؤية شيمون بيريز وتطبيق مشروع برنارد لويس .. فجرى احتلال العراق وإسقاط أنظمة عربية وتمزيق الوطن العربي وعقد اتفاقات سلام بنسخة وصيغة جديدة (اتفاقيات أبراهام) والعمل على تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية أقلية داخلية، ونجح مخطط إشغال الدول العربية ببعضها وتدمير الجيوش العربية وإشعال الحروب الأهلية بتواطؤ أنظمة ودول إقليمية معادية للعرب، وأوجدت بموجب “أوسلو” سلطة فلسطينية “وظيفية” تتحمّل نيابةً عنها العبء، ولكن كل ذلك لم يحقّق لها ما تريد وبقيت غزّة هي عبء الديمغرافيا الأصعب، لم يعالجه الانسحاب من غزّة وحصارها ولا الحروب المستمرة عليها، وبقي التفكير المستمر بالتهجير حلاً يتم العمل عليه وتحيّن الفرص لتنفيذه.
كشف الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عن عرض نتنياهو له بتهجير فلسطينيي غزّة إلى “سيناء”، وكشف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عن إبلاغ الرئيس المصري المعزول الراحل محمد مرسي عن موافقته على تهجير فلسطينيي غزّة إلى “سيناء”، ربما كصفقة مع “الأخوان المسلمين” في إطار ترتيبات ما عُرف بـ (الربيع العربي). فأصبحت خطة التهجير إلى “سيناء” مسألة وجود، وإبعاد الفلسطينيين عن غزّة بمثابة تحقيق حلم رابين بإغراق غزّة في البحر، فالمقصود بالإغراق هو إبعاد البشر، وإذا نجح هذا المخطط سيتم تنفيذه في الضفة تجاه الأردن، فالضفة تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى غزّة أخرى مع فارق قداستها لدى الأساطير الصهيونية ومشكلة المستوطنين.
لم يكن ما يحدث في غزّة من عدوان حالياً وحجم العنف والقتل والإبادة الجماعية والتطهير العرقي بإزاحة سكّان غزّة باتجاه جنوبها، وإعلان مساعي التهجير بل وتبنّيه رسمياً من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وكشف النوايا بهذه الطريقة، إلا إدراكاً للخطر الوجودي الذي يواجه كيان الاحتلال الصهيوني.
فالهزيمة التي واجهها الجيش الصهيوني ومخابراته وآلته الحربية في 7 أكتوبر/تشرين الأول بـ معركة “طوفان الأقصى” التي شنتها حركة المقاومة الإسلامية “كتائب عز الدين القسام” الجناح العسكري لحركة حماس، بقدر ما شكّلت صدمه له ولحلفائه وجرحت كبرياء جيش قال إنه لا يُقهر، إلا أنها إنذار بهزائم أكبر تؤدي إلى نهاية (إسرائيل)، فسعت إلى استغلال الدعم الأمريكي والغربي غير المسبوق الذي أصيب بالصدمة مما جرى لربيبته، فمنحها رخصة قتل لا محدود، ودعماً سياسياً مادياً وعسكرياً وغطاءً لمخالفة القانون الدولي من أجل تنفيذ التهجير حتى لا تكون نهاية (إسرائيل).
ووفق إحدى افتتاحيات “نيويورك تايمز” فقد شبهها كثيرون “بما في ذلك قادة كيان الاحتلال الصهيوني بأحداث 11 سبتمبر” ليس بسبب “حجمها ووحشيتها” كما ترى الصحيفة، بل بسبب أن ما وصفتهم بالإرهابيين قد “سعوا إلى تدمير هدوء الحياة اليومية”. وبالتالي فإن هذه الصدمة، والتي دعت القادة في كيان الاحتلال الصهيوني ونظراءهم الأمريكيين لاستدعاء أجواء “الحرب العالمية على الإرهاب” قد حفزت الاصطفاف الأيديولوجي عالمياً وأفرزت سلسلة من الخطابات والسياقات التي وضع بها الصراع الفلسطيني-(الإسرائيلي) مؤخراً، وهو الأمر الذي تطلب تجنيد سلسلة من الأدوات التحليلية النظرية والمفاهيمية لتفكيك منطلقات الخطاب الصهيوني والغربي ومعرفة آليات استخدامه كسلاح في الصراع الدائر.
فوفق نموذج الدعاية فإن فرضية أن وسائل الإعلام الغربية تدعي الليبرالية وتسعى إلى خلق أجواء تبادل معلومات حرة ما هي إلا وهم. فهذه المؤسسات تخدم مصالح الطبقة المهيمنة وتقوم على سلسلة إجراءات تؤدي في النهاية إلى ديمومة مصالح هذه الطبقة ونفي كل من عداها. في هذه الحالة تتحول الأيديولوجيا إلى مؤسسة ومن خلالها تعمل على نشر الدعاية أو ممارسة التخويف. وقد كان واضحاً بعيد أحداث 7 تشرين الأول /أكتوبر كيف فعّلت وسائل الإعلام الغربية، والمؤسسات الرسمية في كيان الاحتلال الصهيوني والدول الغربية الأيديولوجيا وألصقتها بطريقة مثيرة للدهشة على فصائل المقاومة الفلسطينية وتحديداً حماس التي اتهمت بالإرهاب وبالدعشنة.
في هذا السياق، تم استدعاء منطق 11 سبتمبر، وتقسيم العالم إلى “أبناء النور” و”أبناء الظلام” وأن (إسرائيل) تخوض حرب الحضارة ضد “البربرية” الفلسطينية.
بهذه الطريقة تشكلت هذه الأيديولوجيا داخل المؤسسات الإعلامية الرئيسية المملوكة بشكل كامل أو كبير للطبقة المهيمنة، حيث “أكثر من عشرين شركة تسيطر على كامل وسائل الإعلام التي يتعامل معها معظم المواطنين الأمريكيين”. وهو الأمر الذي يمنحهم سلطة كافية لممارسة تأبيد الخطاب المهيمن الذي يخدم مصالهم من جهة، وممارسة الترهيب المضاد الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى تواري أو إضعاف السرديات المعارضة أو التي لا تتفق مع خطهم الأيديولوجي. وقد كان ذلك لافتاً مؤخراً في حق العديد من الشخصيات الاعتبارية الداعمة للفلسطينيين والتي تعرضت للترهيب لطمس أصواتهم وإجبارهم على التراجع أو الاعتذار.
ومن جانب آخر، وبالاعتماد على المنطلقات المنهجية التي استخدمت في أسس الخطاب الذي حاول أن يروج له كيان الاحتلال ضد الفلسطينيين، وهو الخطاب الذي تلقفته وسائل الإعلام الرئيسية وحاولت إبرازه على نطاق واسع، فإنه اعتمد ثلاثة مستويات رئيسية متداخلة:
· وضع الهجمات الفلسطينية في سياق “الحرب على الإرهاب”، كما وضع حركة حماس في قالب تنظيم داعش، وبالتالي كان يجب على “المجتمع الحر” الدخول في تحالف مع كيان الاحتلال الصهيوني لهزيمة حماس كما شُكل سابقاً تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة لهزيمة تنظيم داعش.
· لكيان الاحتلال الحق في الدفاع عن نفسه وهو الأمر الذي يقتضي أمرين: أولهما أن الكيان الصهيوني هو جانب الضحية وله حق الدفاع المشروع، وثانيهما أن وضعه كضحية يسمح له بممارسة ما يشاء من قوة لحماية مواطنيه خصوصاً إذا كان الطرف الآخر يصنف على أنه “وحشي” و”بربري”.
· تصوير المعركة بأنها ضد حماس حصرياً أو تحديداً، في حين أن المستهدف فيها هو غزة ككل، وكل مقاومتها شعباً وفصائل، والقضية الفلسطينية ذاتها.
· وأخيراً، سردية استخدام حماس المدنيين دروعاً بشرية. وهي السردية التي بات يستخدمها الكيان الصهيوني على نطاق واسع لتبرير استهدافه المفرط للمدنيين الفلسطينيين، ولتصوير حماس على أنها كيان “وحشي” لا يكترث بالمدنيين ويقوم باستخدام منشآتهم المدنية للتستر والاختباء وممارسة الأعمال العسكرية.
وهذا لا يعني أن كيان الاحتلال الصهيوني ومن خلفه الدول الغربية والمؤسسات الإعلامية الرئيسية قد نجح في معركة السرديات، بل وصلنا في زمن الأقمار الصناعية ووسائل التواصل الاجتماعي أن القوة بفرض الرواية إعلامياً لا يمكن السيطرة عليها من طرف واحد، فالكيانات المقاومة يمكن أن تمارس أيضا شكلاً من أشكال القوة وتكون قادرة على فرض روايتها. بالتالي يمكن أن نفهم كيف استطاعت السرديات الداعمة لفلسطين أن تشق طريقها الصعب بقوة لتفرض نفسها كلاعب رئيس في حلبة الرأي العام العالمي، وتحظى بنوع من الحضور والتأثير خصوصاً على الصعيد الشعبي من خلال المظاهرات العارمة التي عمّت العديد من عواصم الدول الغربية مثل واشنطن ولندن وغيرها والتعاطف الذي يبديه الكثير من صناع الرأي والفنانين (مثل الرابر الأمريكي Reveil الذي عرض أسماء الشهداء الأطفال من المدنيين الذين قتلهم كيان الاحتلال في قصفه على غزة) والمؤثرين على منصات التواصل الاجتماعي.
ففي محاولة لتبرير العدوان الهمجي على غزة وتنفيذ إبادة جماعية للسكان، وبعد الانتقادات العالمية للكيان الصهيوني لفشله في تقديم أدلة على تدمير المستشفيات، عمد الاحتلال لتنشيط لجانه الإلكترونية من أجل تقديم روايات أخرى مفبركة تستهدف جلب التعاطف معهم، ومنها استدراج المطبعين العرب، وتجنيدهم خدمة لأهداف الكيان، وقيادة حملات إلكترونية تعمل من خلال وزارة الخارجية والاستخبارات “الإسرائيلية”، للعبث بالرأي العام سواء العربي أو العالمي وتقديم روايات مزيفة تحاول اللعب على وتر المظلومية اليهودية، وذلك من خلال مواجهة ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي من فضح لجرائم الإبادة الصهيونية بفبركة قصص غير حقيقية مقابلة عن قتل حماس الأطفال وقطع رؤوسهم، واغتصاب النساء، للتأثير على التعاطف مع غزة.
ولأنه “يمكنك أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت، لكنك لن تستطيع خداع كل الناس كل الوقت”، كما قال الرئيس الأميركي الأسبق إبراهام لينكولن، لم تصمد أكاذيب الاحتلال الصهيوني كثيراً.
رغم النشاط المكثف للجان الإلكترونية الصهيونية، جاءت حملاتهم متخبطة بسبب مفاجأة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفضحت تقارير عبرية وأميركية أكاذيب جيش الاحتلال التي تعمدت هذه اللجان الإلكترونية ترويجها، بجانب صحف ومنصات يهودية.
فالسردية الصهيونية بشأن شيطنة حماس (والمقصود فعلياً شيطنة كل المقاومين) وتجريدهم من إنسانيتهم وارتكاب مقاتليها انتهاكات مختلفة منها مزاعم قطع رؤوس أطفال وقتل عجائز واغتصاب فتيات في 7 أكتوبر تصدعت بعد ظهور تقارير واعترافات صهيونية تنفي ما سبق ترويجه وعلى أساسه يتم تبرير مجازر غزة. وجاءت مشاهد وروايات الأسرى الصهاينة حول إنسانية حماس وتعامل المقاومة بأخلاقيات إسلامية معهم لتنسف السرديات التي بثتها اللجان الصهيونية.
وفي تقرير مفصل لصحيفة “هآرتس” العبرية 4 ديسمبر/كانون الأول 2023، فندت الكثير من الأخبار غير الدقيقة، والروايات غير الموثوقة، التي تم تداولها عن هجوم المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر، ومن أبرزها مزاعم مقتل عشرات الأطفال، وأن ما جرى في ذلك اليوم أدى إلى انتشار “قصص رعب لم يحدث أي منها على أرض الواقع”، فأشارت إلى أن القصص المزعومة بشأن “الفظائع المُرتكبة”، استند بعضها إلى تفاصيل أدلى بها مسؤولون صهاينة، وجنود في جيش الاحتلال، ومتطوعون في فرق البحث والإنقاذ ثم تبين أنها “ادعاءات لا أساس لها من الصحة”.
كما أقر جيش الاحتلال بأن إحدى هذه القصص المكذوبة، انتشرت بناء على مزاعم أدلى بها جندي إسرائيلي واحد، بعدما روجت لجانهم الإلكترونية لهذه القصص على نطاق واسع لجذب تعاطف العالم مع مجازرهم، لكنها انقلبت عليهم.
ظهرت أكاذيبهم أيضا حين تحدثوا عن 1400 قتيل “إسرائيلي” على يد المقاومة، ثم تبين أن 200 جثة تعود لشهداء فلسطينيين قصفتهم مروحيات ودبابات صهيونية في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ومعهم أسرى صهاينة، وهو ما اعترفت به صحفهم.
كان أخطر ما جرى تسريبه حول الأكاذيب التي لفقها جيش الاحتلال لحركة حماس وفصائل المقاومة الأخرى في هجومها على قواعد عسكرية صهيونية في مستوطنات غلاف غزة، ما ذكرته صحيفة “هآرتس” 19 تشرين الثاني / نوفمبر 2023، حيث ذكرت أن “تقييمات المؤسسة الأمنية أظهرت أن مروحية قتالية تابعة لجيش الاحتلال وصلت إلى مكان حفل هاجمه مقاتلو القسام، وأطلقت النار على منفذي الهجمات هناك، فأصابت أيضاً بعض الصهاينة المشاركين في المهرجان”.
وقد دفع هذا جيش الاحتلال الذي أقر ضمنياً بوقوع خطأ في إحصاء عدد القتلى في 7 أكتوبر، لتقليص عدد الصهاينة منهم، من 1400 إلى 1200، بعد أن اكتشف أن 200 جثة متفحمة تعود لشهداء فلسطينيين.
و كانت مزاعم وجود مقر القيادة الرئيس لحركة حماس أسفل مجمع الشفاء غربي مدينة غزة، والتي جرى ترويجها بشكل واسع، لتبرير مهاجمة المستشفيات وإخلائها من المرضى والجرحى بشكل غير إنساني، هي أكبر أكذوبة سخر منها العالم.
كما اعترف إيهود باراك رئيس وزراء الاحتلال السابق أيضاً أن هناك ملاجئ تحت مستشفى الشفاء شيدتها “تل أبيب” وليس حماس، مشككاً في الرواية الصهيونية في لقاء صحفي مع قناة “سي إن إن” الأميركية 22 تشرين الثاني / نوفمبر.
وكانت الأكذوبة الأكبر، والتي جاءت مباشرة بعد خروج الأسيرات الصهيونيات مبتسمات وملوحات لمقاتلي حماس بالشكر، وثبوت أكذوبة قتل الأسيرات، التي روجت لها لجان الاحتلال حول اغتصاب نساء خلال هجوم يوم 7 أكتوبر، وذلك بعد أن زعمت “كوخاف الكيام ليفي”، الصهيونية التي عينتها “تل أبيب” للتحقيق في “جرائم الاعتداء الجنسي” لصحيفة “هآرتس” العبرية في 30 تشرين الثاني / نوفمبر أن حماس “استخدمت العنف ضد النساء كسلاح لكسر روح الصهاينة”، وروايات أخرى مفبركة لقادة ومسؤولين أمريكيين وصهاينة ثبت زيفها من خلال إعلامهم الذي لا يمكنه تجاهل ما ينشره إعلام وشعب وجمهور ومؤيدو المقاومة الفلسطينية على وسائل التواصل الاجتماعي.
والغريب أنه بفضل الدعاية المضللة، قبل كشف زيفها، لم يحصل جيش الاحتلال فقط على تعاطف الإعلام الغربي الذي كرر هذه الأكاذيب، بل أيضاً على دعم عسكري مباشر من الولايات المتحدة وبريطانيا.
وتجلى هذا الدعم في إرسال واشنطن حاملة طائرات والسفن الحربية المرافقة لها وغواصة نووية لحماية كيان الاحتلال الصهيوني، وتخصيصها 14 مليار دولار لدعمه في حربه ضد غزة، ووصول 200 طائرة شحن عسكرية تحمل معدات حربية، في المقابل ورغم نفي حماس ارتكاب مقاتليها لأي من المزاعم الصهيونية التي روج لها الإعلام الأميركي والغربي على نطاق واسع، لم يكن هناك في الغرب من يرغب في سماع الرواية الأخرى.
لكن المفاجأة أن الاعتراف جاء من داخل كيان الاحتلال ذاته ليصدم كل من صدق سرديته من البداية بشكل أعمى ومن دون تحقق من صحة المعلومات التي روجتها اللجان الصهيونية.
وأظهرت دراسة أعدتها شركة “DMR” بتكليف من مجلة “إيكونوميست” البريطانية 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2023، حول سلوك مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي خلال الفترة من 7-23 تشرين الأول / أكتوبر، من خلال جمع مليون مشاركة، أن نسب الدعم لحماس وكيان الاحتلال كانت متساوية يوم العملية، ولكن بحلول 19 أكتوبر 2023 أصبحت المنشورات المؤيدة لفلسطين أكثر بمقدار 3.9 مرات عن المنشورات المؤيدة لكيان الاحتلال، كما وثقت مقارنة بين عدد مشاهدات تطبيق تيك توك من خلال الوسوم بعد تاريخ 30 أكتوبر، أن وسم standwithisrael# جرت مشاهدته 324 مليون مرة، بينما standwithpalestine# شوهد 3.4 مليارات مرة.
ورغم مساعي الاحتلال محاربة المحتوى الفلسطيني على هذه المنصات، وتحريضه الدائم لإداراتها واستجابتها فعلياً، بفرض تقييدات للوصول وحجب الصفحات وحظر الحسابات وتجريم المصطلحات، واستهداف الصحفيين لحجب الصورة والحقيقة، نجحت الرواية الفلسطينية وبتفاصيلها القديمة والجديدة في شق طريقها والوصول للرأي العام، كما كشفت للدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع كيان الاحتلال الصهيوني أنها “واهمة” وأن الأحداث الأخيرة عرّضت اتفاقات السلام مع كيان الاحتلال إلى “الموت الحتمي”، وإعلان دفنها