د. محمد السعيد إدريس يكتب: أوهام شرق أوسط نتنياهو “الجديد”
د. محمد السعيد إدريس يكتب: أوهام شرق أوسط نتنياهو “الجديد”
في لحظة من لحظات أوهامه وأحلامه تجرأ بنيامين نتنياهو رئيس حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلي أن يقف ويتحدث أمام الجمعة العامة للأمم المتحدة في دورتها التى سبقت، بأسابيع قليلة “هجوم طوفان الأقصى” الفلسطيني الكاسح على خطوط الدفاع الإسرائيلية ومستعمرات ما يعرف بـ “غلاف غزة” ، ممسكا في يده وملوحاً بـ “خريطة” قال أنها “للشرق الأوسط الجديد”، وفق ما لديه من مخططات وتأكيدات من الأطراف المعنية. وقبل أن يتجرأ في عرض هذه الخريطة ، التى تكشف حدود “إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل” التى هى في القلب من مشروع ذلك الشرق الأوسط الجديد الذى يبشر به، كان قد أعلن “سنخلق الشرق الأوسط الجديد، وسنقوم بتصفية القضية الفلسطينية نهائياً وإزالتها من الأجندة”.
وعندما شنت إسرائيل ، بأوامر من نتنياهو ومشاركة أمريكية “حرب الإبادة” ضد الشعب الفلسطيني ، والتى أعطوها اسم “السيوف الحديدية” لم تكن كل تلك الجرائم التى ارتكبت ضد المدنيين ، والتى جرى توصيفها بأنها “حرب ضد الإنسانية”، مجرد حرب انتقامية من هجوم “طوفان الأقصى” الذى وصفه ضابط المخابرات الأمريكية الشهير “سكوت ريتر”، الذى سبق أن عمل في منصب مفتش الأمم المتحدة المكلف بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل العراقية خلال الأعوام من 1991- 1998 بأنه “يعد أنجح غارة عسكرية في هذا القرن”، ولم تكن تلك الحرب “الإجرامية” مجرد البحث عن “ورقة توت” لستر الانكسار الذى حدث للهيبة وللمكانة الإسرائيلية، وما تمثله إسرائيل من “رمزية لأعلى مستويات التفوق والتسلط الغربي (الأمريكي والأوروبي) ، ولكنها كانت ومازالت بالأساس حرباً من أجل الحيلولة دون إفشال حلم هذا “الشرق أوسط الجديد” الذى رسم نتنياهو معالم خريطته .
هذا المشروع لم ينشأ من فراغ ، كانت له مرتكزاته وكانت له أهدافه ، التى مازالت تمثل حلماً لتيار اليمين التوراتي الإسرائيلي الذى يحكم إسرائيل الآن ، منذ أن نجح في إقرار مشروع “قانون القومية” من الكنيست عام 2018 ، وهو المشروع الذى أكد على أن “كل فلسطين من النهر إلى البحر” هى “أرض خالصة للشعب اليهودي دون أي منازعة من أي شعب آخر”. كان صدور هذا القانون من الكنيست (البرلمان) الذى اعتبروه “قانوناً دستورياً” لا يمكن التراجع عنه، يعني أن اليمين الإسرائيلي الذى يحكم ، والذى أعطى كل الأولوية لبناء المستوطنات بكثافة في الضفة الغربية ، بدأ يفكر جدياً في تنفيذ ما أسموه بـ “سياسة الترانسفير” ، أى التهجير القسري للشعب الفلسطيني من الضفة الغربية على وجه التحديد . مشروعات التهجير الإسرائيلية كثيرة، وأبرزها بالطبع ما يعرف بـ “مشروع أيلاند” لصاحبه في الاحتياط الجنرال “غيورا أيلاند”، ويرتكز على فكرة مبادلة أراضي مع مصر لتهجير الشعب الفلسطيني من غزة إلى سيناء ، بعد أن يكون قد تم التخلص نهائيا من أهالي الضفة الغربية بتهجيرهم قسرياً إلى “أوطان بديلة” كي تصبح كل فلسطين ملكية خالصة لليهود .
وجاء هجوم “طوفان الأقصى” ليجدد عند نتنياهو أفكار ومخططات التهجير القسري للفلسطينيين ، واتخاذ هذا الهجوم “تكئة” أو “مبرراً” لتنفيذ هذه المخططات وتفريغ قطاع غزة من شعبه الفلسطيني، وجعل هدف “تفريغ قطاع غزة من شعبه” هدفاً محورياً للعدوان العسكري الإسرائيلي بمواصفاته التى شاهدها العالم كله، نظراً لما يمثله هدف السيطرة على قطاع غزة وضمه إلى كيان الاحتلال من ضرورة مركزية لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذى يريده نتنياهو.
أما الهدف الثاني لهذا المشروع الذى يكمل مشروع ضم قطاع غزة والضفة الغربية إلى كيان الاحتلال فهو فرض إسرائيل “قوة إقليمية عظمى مهيمنة” على إقليم الشرق الأوسط كله، وفي القلب منه تلك المساحات الواسعة التى تضمنتها خريطة نتنياهو التى تتسع لتشمل سيناء وأجزاء واسعة من لبنان وسوريا وغرب العراق والكويت وشمال السعودية والأردن ، باعتبار أن إلحاق هذه المساحات الشاسعة من أراضي الدول العربية هى مرتكز فرض السيطرة الإسرائيلية على الشرق الأوسط كله .
عندما تجرأ نتنياهو ولوّح بخريطته تلك من على منبر الأمم المتحدة ، وكأنه يملك وحده سلطة التشريع الدولى، كان يعيش ما يمكن تسميته بـ “لحظة النشوة الخادعة” ، التى صورت له أنه بات في مقدوره أن يحقق كل الأحلام في مشروع واحد تضمنته تلك الخريطة .
هذا الإدراك الزائف كانت له مرتكزاته التى جعلت نتنياهو يصل إلى قناعاته بذلك “الشرق الأوسط الجديد” كما تضمنته تلك الخريطة.
– أول تلك المرتكزات هى نجاحات اختراقات إسرائيل للعديد من الدول العربية وانخراطها في ما سمى بعملية “السلام الإبراهيمي” التى رعاها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وجاء الرئيس الأمريكي الحالى جو بايدن ليجاهد من أجل استكمالها خاصة مع المملكة العربية السعودية .
– ثانى هذه المرتكزات المشروع الضخم الذى جرى التوقيع عليه على هامش قمة الدول العشرين الأخيرة (نيودلهي – 9/9/2023) وحمل اسم “الممر الاقتصادي” الذى من المقرر أن يربط آسيا ابتداء من الهند مع أوروبا عبر خطوط ملاحية بحرية وسكك حديدية عبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، بحيث تكون إسرائيل هى “محور هذا المشروع الهائل” الذى خلق قناعات أكيدة عند نتنياهو أن إسرائيل أضحت مرتكز الترابط بين آسيا والعرب وأوروبا .
– ثالث هذه المرتكزات مشروع خط أنابيب النفط المقترح بين الإمارات والسعودية إلى ميناء عسقلان الإسرائيلي الذى يبعد عن قطاع غزة بـ 25كم فقط .
– رابع هذه المرتكزات ما يسمى بـ “قناة بن جوريون” التى تربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط ابتداء من ميناء إيلات الإسرائيلي على خليج العقبة ومنه إلى ميناء عسقلان .
هنا بالتحديد تتكشف مدى ضرورة تفريغ قطاع غزة وضمه لإسرائيل، باعتبار القطاع يمثل امتداداً طبيعياً لميناءي حيفا وعسقلان حيث ستقام المشروعات الجديدة، إضافة إلى أطماع إسرائيل في ثروة الغاز الهائلة الكامنة في المنطقة الاقتصادية على امتداد شواطئ قطاع غزة وتقدر بحوالي 2 تريليون متر مكعب من الغاز .
وجاء هجوم “طوفان الأقصى” وما أحدثه من انكسار في المكانة الإسرائيلية وتعرية أكذوبة أن إسرائيل هى “القوة الإقليمية العظمى” القادرة على السيطرة والهيمنة وفعل ما تريد، وجاء من بعده فشل حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة وعجزها عن تحقيق أى “انتصار استراتيجي” باعتراف كبار قادة الكيان وحلفائه من الأمريكيين والأوروبيين بفضل بطولات المقاومة، والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، وإسقاطه كل رهانات أن الحرب الدامية ستجبر الشعب على أن يقف في وجه المقاومة ويقبل بالاستسلام .
لم يحدث انكسار فلسطيني، بل ما يحدث هو انتصار ومع هذا الانتصار لن تسقط وتتمزق فقط خريطة نتنياهو ، بل باتت إسرائيل أمام واقع فلسطيني وعربي وعالمي جديد يؤكد أن القضية الفلسطينية غير قابلة للتصفية وأن إسرائيل عاجزة عن الانتصار .