د. محمد السعيد إدريس يكتب :الشراكات الصينية بين الإقليمية والدولية
د. محمد السعيد إدريس يكتب :الشراكات الصينية بين الإقليمية والدولية
لم تفصل الصين فى استراتيجيتها إلى التحول إلى قوة عالمية بين أن تمتلك مؤهلات فرض نفسها “كقوة إقليمية مهيمنة”، أو على الأقل “قوة إقليمية مناوئة” وبين أن تمتلك مرتكزات قوية لفرض نفسها كـ “قوة عالمية”، لكن المفهوم الصينى لكى تصبح الصين “قوة عالمية” أخذ مبكراً مفهوماً واضحاً ومحدداً للرغبة فى التحول إلى “قوة عالمية مشاركة” وليس إلى قوة عالمية مهيمنة. على العكس من المفهوم الأمريكى للقوة العالمية. فالولايات المتحدة، وخصوصاً منذ تفكك الاتحاد السوفيتى وسقوط “حلف وارسو” وانتهاء نظام “القطبية الثنائية” عملت على فرض نفسها “قوة عالمية أحادية مهيمنة” وهذا جعلها حريصة على أمرين الأول منع ظهور أى قوة أخرى فى العالم يكون فى مقدورها المنافسة مع الولايات المتحدة على الزعامة الدولية، والثانى أن تفرض نفسها كقوة إقليمية مهيمنة أو على الأقل “قوة إقليمية مناوئة” فى كل النظم الإقليمية بالعالم.
هذا ما يميز الاستراتيجية الصينية عن الاستراتيجية الأمريكية ، فإذا كانت الصين تتحدث عن “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية فى العصر الجديد” كما صاغها رئيسها شى جينج بنج عام 2022 فإنها تعمل أيضاً من أجل نموذج دبلوماسى لاستراتيجيتها العالمية من خلال السعى إلى بناء “نموذج تشاركى فى القيادة الدولية” عن طريق “إعادة تشكيل النظام العالمى من نظام الأحادية القطبية الذى تصر الولايات المتحدة على فرضه والتمسك به إلى نظام عالمى متعدد الأقطاب”، لذلك هى تطرح مشاريعها لإنجاز هذه الاستراتيجية أو لبناء “النظام العالمى التشاركى” المؤسس على تشاركيات عالمية خاصة دبلوماسية بناء مشروع “الحزام والطريق” و”المشاركة فى الحوكمة العالمية” و”المساهمة فى القيم المشتركة للبشرية”.
وهكذا اتجهت الصين منذ إطلاق مشروع تنمية اقتصادها عام 1978 بزعامة رئيسها دينج شياو بنج على أساس الانفتاح على العالم، وهو المشروع الذى حقق نسبة نمو اقتصادى تجاوزت فى معظم السنوات 10 بالمائة، حتى أنها وصلت عام 1984 إلى 15 بالمائة لم يتجاوز معدل نمو الاقتصاد الأمريكى 1,2 بالمائة، ومنذ ذلك الحين بدأت أيضاً دبلوماسيتها الإقليمية والدولية لحماية هذه الانطلاقة الاقتصادية، الأمر الذى يكشف “عالمية الانطلاقة الاستراتيجية الصينية بموازاة عالمية الانطلاقة الصينية الاقتصادية”.
وبموازاة الحرص على جعل الصين قوة مسيطرة فى إقليمها الجغرافى، وهذا ما فرض عليها الصدام مبكراً مع النفوذ والوجود العسكرى الأمريكى فى هذا الإقليم، ومناوئة ما تسميه بـ “دبلوماسية الإكراه الأمريكية” على نحو ما جاء فى بيان لوزارة الخارجية الصينية (19/5/2023) قبل يوم واحد من افتتاح قمة الدول الصناعية السبع فى مدينة هيروشيما باليابان، حيث اتهم هذا البيان فى تحرك استباقى، الولايات المتحدة بأنها “المالك الحصرى للإكراه” وقالت أن “الولايات المتحدة لديها تاريخ مشين للغاية فى دبلوماسية الإكراه”. وبعد صدور بيان عن قمة الدول الصناعية السبع (20/5/2023) الذى أكد معارضتهم لما أسموه بـ “أنشطة العسكرة” التى تمارسها الصين فى منطقة “آسيا- المحيط الهادى” حذرت سفارة الصين لدى بريطانيا فى اليوم نفسه دول “مجموعة السبع” من أن “أى أقوال أو أفعال تضر مصالح بكين ستقابل بإجراءات مضادة وقوية وحازمة”، ثم أصدرت سفارة الصين فى النرويج بيان (3/6/2023) أكدت فيه أن الصين “تعارض بشدة” وصف حلف الأطلسى لها مراراً بأنها “تهديد” مشيرة إلى تصريحات للأمين العام للحلف بينس ستولتنبرج خلال زيارة قام بها للنرويج فى ذلك الوقت، وقالت السفارة فى بيانها “تحث الصين حلف شمال الأطلسى على وقف إثارة الصراعات الإقليمية وبث الانقسامات والاضطرابات” ، وفى اليوم التالى حذر وزير الدفاع الصينى “لي شانغفو” (4/6/2023) أمام مؤتمر الأمن الآسيوى المنعقد فى سنغافورة ويحمل اسم “شانغريلا” من إقامة تحالفات عسكرية شبيهة بحلف شمال الأطلسى فى منطقة “آسيا – الهادى” واعتبر أنها “ستغرق المنطقة فى زوبعة من الصراعات”.
هذه الاحتكاكات أو “التحرشات” الصينية بالسياسات والنفوذ الأمريكى فى إقليم “آسيا – الهادى” الذى تعتبره الصين “مجالها الحيوى” أو مجال نفوذها الإقليمى جاءت تعبيرا عن ما جاء على لسان الرئيس الصينى شى جينج بنج فى موسكو خلال المؤتمر الصحفى مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين (21/3/2023) فى هذا المؤتمر انتقد الرئيس الصينى المفهوم الاستراتيجى لحلف شمال الأطلسى (الناتو) واتهمه بأنه يخطط لإنشاء “ناتو عالمى”.
هذه “التحرشات الصينية” بالولايات المتحدة فى إقليم “آسيا – الهادى” امتدت إلى معظم أقاليم العالم من خلال استراتيجية صينية هدفها التأسيس لـ “شراكات صينية عالمية” لتوسيع النفوذ الصينى عالميا وإنهاء “استراتيجية التفرد الأمريكى” عبر شبكة من “الشراكات الاستراتيجية” مع معظم القوى العالمية. وهذه الشراكات أخذت أشكالاً متعددة منها “الشراكات الثنائية” مع قوة كبرى بعينها وأبرزها بالطبع “الشراكة الاستراتيجية الصينية – الروسية” ومنها الشراكات الجماعية على غرار “الشراكة الصينية- العربية” وغيرها من الشراكات، ومنها الشراكة عبر التأسيس لمنظمات إقليمية وعالمية خارج النطاق الأمريكى – الأطلسى، أى بعيداً عن عضوية الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسى باعتبارها الطرف المناوئ دون أى إخلال بالطبع بالالتزامات الصينية تجاه الأمم المتحدة كمنظمة عالمية والالتزام بميثاقها وما يتضمنه من أهداف ومبادئ ترى الصين أن الولايات المتحدة لا تحترمها وأنها تسعى دائماً للقفز والاستعلاء عليها، ومنح نفسها حقوقاً خارج إطار القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة.
وإذا كانت الشراكة الاستراتيجية الصينية – الروسية قد تأسست لمواجهة التفرد الأمريكى والسعى المشترك عبر منظومة متكاملة من التعاون الاستراتيجى والعسكرى والاقتصادى ، لإسقاط نظام الأحادية القطبية الذى تدافع عنه الولايات المتحدة مدعومة بحلف شمال الأطلسى ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، فإن الشراكات الأخرى الجماعية ضمن إطار استراتيجية “الحزام والطريق” الصينية ترتكز على مفاهيم المصالح الاقتصادية المتبادلة ودعم مشروعات التنمية وجعل الصين شريكا أساسيا فى منظومة مصالح اقتصادية ممتدة فى معظم أقطار العالم، والشراكة الصينية العربية تعد أبرز هذه النماذج، فى حين أن “منظمة شنغهاى للتعاون” تأخذ شكل التعاون الجماعى الاستراتيجى، وأرادتها الصين أن تكون ، حسب ما أسمتها، “منظمة إقليمية” كى تكون مغلقة أمام أى محاولات اختراق أمريكية أو أطلسية، فى حين أن “منظمة بريكس” تأسست عبر شراكة اقتصادية صينية – روسية – هندية – برازيلية، ثم انضمت إليها جنوب أفريقيا، لتؤسس لكتلة اقتصادية عالمية قادرة على موازنة “مجموعة الدول الصناعية السبع”، لذلك فإن الصين تصر على تأكيد أن عضوية “منظمة بريكس” منفتحة وغير منغلقة الأمر الذى من شأنه توسيع عضويتها بضم العديد من الدول، وها هى تعد الآن لمؤتمرها القادم فى جنوب أفريقيا الذى من المقرر أن يصدر “عملة دولية” قادرة على منافسة كل من الدولار واليورو كعملات عالمية.
هذه الشراكات الاستراتيجية الصينية فى حاجة إلى مزيد من التعمق فى التحليل، لأنها تعد، عن حق، مرتكزات الصين لإسقاط نظام الأحادية القطبية وإنهاء التفرد الأمريكى عبر منظومة “تمرد إيجابية” لا تسقط القائم ولكن تؤسس البديل