“الطاعون والجدري والكوليرا”.. معركة الإنسانية ضد الأوبئة عبر التاريخ
دعاء رحيل
“الطاعون والجدري والكوليرا”.. عندما يعيش الناس بأعداد كبيرة بالقرب من بعضهم البعض، يمكن أن تتحول المشاكل الصحية إلى كوارث. فالصرف الصحي والتغذية السيئة يمكن أن يخلق بيئة خصبة للأمراض، ومع انتشار التجارة الخارجية. يمكن أن تظهر الإصابات الجديدة على نطاق واسع. هذا ما حدث عندما ظهرت أولى الأوبئة العالمية.
الطاعون
واحدة من أكثر الأوبئة فتكًا في التاريخ المسجل كانت ناتجة عن بكتيريا واحدة: طاعون جستنيان. وصل هذا الطاعون إلى القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، في 541 ميلادية، حيث تم نقله عبر البحر المتوسط من مصر. وكانت البراغيث المليئة بالطاعون قد ركبت على ظهور الفئران السوداء التي تغذت على الحبوب.
انتشر هذا الطاعون مثل حرائق الغابات في جميع أنحاء أوروبا وآسيا وشمال إفريقيا والجزيرة العربية. مما أسفر عن مقتل ما يقدر بـ 30 إلى 50 مليون شخص – ربما نصف سكان العالم.”
يقول توماس موكيتيس، أستاذ التاريخ في جامعة دى بول، إن الناس لم يكونوا على دراية حقيقية بكيفية محاربة الطاعون، وكانت الطريقة الوحيدة هي تجنب المرضى. وأضاف: “بالنسبة لانتهاء الطاعون، يعتقد أن غالبية الناس الذين نجوا كانوا يمتلكون مناعة قوية”.
لم يختفِ الطاعون تمامًا، بل عاد بعد 800 عامًا في عام 1347 وأودى بحياة 200 مليون شخص في أوروبا خلال أربع سنوات فقط، وفيما يتعلق بكيفية إيقاف المرض. لم يكن لدى الناس فهم علمي للعدوى، ولكنهم كانوا يدركون أن المرض ينتشر بالقرب من المصابين. لذلك قرروا المسؤولون في مدينة راجوسا الساحلية التابعة للبندقية عزل البحارة القادمين حديثًا حتى يثبتوا ألا يحملون المرض.
في البداية، كان يتم احتجاز البحارة على متن سفنهم لمدة 30 يومًا، وهذه المدة كانت تعرف باسم ترينتينو في قانون البندقية. ومع مرور الوقت، زاد سكان البندقية مدة العزل إلى 40 يومًا، والتي أصبحت تعرف باسم الحجر الصحي، وكان لهذه التدابير دور كبير في اختفاء المرض.
تفشي كبير للطاعون
ولم تحظَ لندُن باستراحة بعد الموت الأسود، يظهر الطاعون مرة أخرى تقريبًا كل 20 عامًا من 1348 إلى 1665-1640 حالة تفشي في 300 عام، ومع كل وباء طاعون جديد ، قتل 20 % من الرجال والنساء والأطفال الذين يعيشون في العاصمة البريطانية.
في القرن السادس عشر، بدأت إنجلترا بفرض قوانين لعزل المرضى وفصلهم عن المجتمع. كانت المنازل التي تضررت بالطاعون تحمل علامة على شكل حزمة من القش معلقة على عمود خارج المنزل. وكان يجب على أولئك الذين أصيبوا بالطاعون في أسرهم حمل عمود أبيض عند الخروج إلى الأماكن العامة. وكان يُعتقد أن القطط والكلاب تحمل المرض، مما أدى إلى مذبحة جماعية لمئات الآلاف من هذه الحيوانات.
وفي عام 1665، شهدت إنجلترا آخر تفشي كبير للطاعون، حيث قُتِلَ 100،000 شخص من سكان لندن في غضون سبعة أشهر فقط. تم حظر جميع التجمعات والأنشطة الترفيهية العامة، وتم عزل المصابين بالقوة في منازلهم لمنع انتشار المرض. وكان يرسَمُ صلبانٌ حمْراءٌ على أبواب المصابين مع نداء “يا رب ارحمنا”.
ورغم قسوة هذه التدابير، فإنها ربما كانت الطريقة الوحيدة لإنهاء هذا التفشي الأخير للطاعون.
وباء الجدري
أما بالنسبة للجدري، فقد كان مستوطنًا في أوروبا وآسيا والجزيرة العربية لقرون، وكان يسبِّبُ مقتل ثلاثة من كل عشرة أشخاص مصابين به، وتَرْكَ البقية به ندوب. ولكن معدلات الوفيات في العالم القديم كانت قليلة مقارنة بالدمار الذي حدث في العالم الجديد. عندما وصل فيروس الجدري إلى هنَاكَ في القرن الخامس عشر مع قدُوْمِ المستكشفين الأوروبيين.
لم يكن لدى الشعوب الأصلية في المكسيك والولايات المتحدة مناعة طبيعية ضد الجدري. وقام الفيروس بقتل عشرات الملايين منهم. يقول موكايتيس: “لم يحدث قتل في تاريخ البشرية يطابق ما حدث في الأمريكتين، فقد قتِلَ ما بين 90 إلى 95 % من السكان الأصليين على مدى قرن”. “انخفض عدد سكان المكسيك من 11 مليون شخص قبل الغزو إلى مليون”.
وبعد قرون، أصبح الجدري أول وباء فيروسي ينهَى بواسطة لقاح. في أواخر القرن الثامن عشر، كتب إدوارد جينر في عام 1801: “إبادة الجدري، أكثر آفة رعبًا للجنس البشري، هو نتيجة نهائية لهذه الممارسة”. واستغرق الأمر قرنين آخرين، ولكن في عام 1980 أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الجدري قد تم القضاء عليه تمامًا.
الكوليرا
أما بالنسبة للكوليرا، ففي أوائل منتصف القرن التاسع عشر، اجتاحت هذه المرض إنجلترا وأسفرت عن مقتل عشرات الآلاف. وكان يعتقَدُ في ذلك الوقت أن المرض ينتشر عبر “الهواء القبيح”، لكن طبيبًا بريطانيًا يدعَى جون سنو اشتبه في أن الماء المستخدم للشرب في لندن هو مصدر انتشار المرض.
وبعد جهود حثيثة، نجح سنو في إقناع المسؤولين المحليين بإزالة مقبض مضخة شارع برود للشرب وجعله غير قابل للاستخدام. وفورًا تلاشى المرض. وعلى الرغم من أن عمل سنو لم يعالِجِ المشكلة فورًا،. إلا أنه أدى في نهاية المطاف إلى جهود عالمية لتحسين نظام الصرف الصحي في المدن وحماية مياه الشرب من التلوث.
وعلى الرغم من أن الكوليرا قد تم القضاء عليها إلى حد كبير في البلدان المتقدمة. إلا أنها لا تزال تشكِّلُ تهديدًا في البلدان النامية التي تفتقر إلى معالجة مياه الصرف الصحي الكافية والحصول على مياه شرب نظيفة.