د. محمد السعيد إدريس يكتب:شبح “أوكرانيا صينية” مع تايوان
د. محمد السعيد إدريس يكتب:شبح “أوكرانيا صينية” مع تايوان
التصريح الوارد على لسان الرئيس الصينى شي جينج بينج أمام قادة الحزب الشيوعى الصينى الحاكم فى مؤتمره العشرين بأن الصين “لن تتخلى عن القوة كاحتمال لإعادة تايوان إلى البر الصينى” لم يكن مجرد تهديد باستخدام القوة، لمن يهمه الأمر، وعلى الأخص الولايات المتحدة الأمريكية التى اتخذت من تايوان منطلقاً لاستهداف الصين ومحاصرتها داخل حدودها، بقدر ما كان وعداً أمام قادة الحزب باستخدام القوة لاستعادة تايوان الأمر الذى دفع هؤلاء القادة للتصفيق وقوفاً على هذا العود لدقائق طويلة، وهذا المشهد يعني أمرين، أولهما أن الرئيس الصينى بات مقتنعاً بأن استعادة تايوان إلى “الوطن الأم” بالوسائل الديمقراطية لم يعد ممكناً على ضوء تحولات الموقف الأمريكى عن مبدأ “صين واحدة” الذى سبق أن أعلن الأمريكيون التزامهم به، أى استعادة تايوان، ولكن ديمقراطياً إلى الصين، وتراجعهم عن هذا الالتزام بعد أن أدركوا أن الصين أضحت هى المنافس الأبرز للولايات المتحدة على قيادة النظام العالمى. أما الأمر الثانى فهو أن استخدام القوة من جانب الصين لاستعادة تايوان أضحى التزاماً قومياً صينياً.
هل هذا يعنى أن الحرب باتت وشيكة بين الصين والولايات المتحدة حول تايوان؟ وهل يمكن الاعتقاد بأن الولايات المتحدة هى التى تخطط لتحفيز الصين على التورط فى مثل هذه الحرب، ضمن مخطط آخر يستهدف القضاء على القوة الصينية والحلم الصينى للمنافسة على الزعامة الدولية، فى مشهد درامى يكرر التجربة المأساوية الراهنة لروسيا فى أوكرانيا، وخلق “أوكرانيا” أخرى للصين، خصوصاً إذا ما انتهت الحرب الأوكرانية الراهنة بهزيمة روسيا، أو على الأقل هزيمة أهدافها فى أوكرانيا؟
السؤال مهم لأن الواضح والمؤكد أن الأمريكيين ومعهم حلفاؤهم الأوروبيين فى حلف شمال الأطلسي هم من استدرجوا روسيا للحرب فى أوكرانيا، عندما شجعوا أوكرانيا لطلب الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، الأمر الذى رفضه الروس باعتبار هذا الانضمام الأوكراني تهديد مباشر للأمن القومى الروسى لأن الحلف، في مثل هذه الحالة، سيحكم الإحاطة بروسيا من حدودها الجنوبية والشرقية، لذلك دخل الروس إلى أوكرانيا لمنع تحولها إلى قاعدة أمريكية- أطلسية، والآن يمكن تشبيه التراجع الأمريكى عن دعم خيار “صين واحدة” أى القبول بانضمام تايوان، بالوسائل الديمقراطية، للصين بقرار رفض الطلب الروسى بمنع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي ، فهل سيقع الصينيون فى هذا الفخ؟
السؤال طرحه الكاتب جدعون راتشمان فى صحيفة الفايننشيال تايمز “البريطانية” ولكن بصيغة أخرى هى: هل يمكن تفادى الحرب بين الولايات المتحدة والصين؟. الكاتب رجع إلى مجموعة مطولة من التصريحات العدائية بين الطرفين الأمريكى والصينى جعلته يعتقد أن الحرب بين البلدين باتت “محتملة لا ممكنة فقط”. لم تعد التصريحات فقط هى الدليل على الخطر، بل أيضاً التصرفات من الجانبين.
الأمريكيون يسعون إلى “شرعنة” وجودهم العسكرى بالقرب من الصين، عبر نشر القطع العسكرية الأمريكية وإجراء المناورات الحربية مع الدول الحليفة فى المنطقة، وتحفيز اليابان على التحول إلى قوة عسكرية قادرة على مواجهة الصين ، وتشكيل تحالف جديد يضم دول حوض المحيطين الهادى والهندى، باعتبارها المنطقة الاستراتيجية الأهم فى الصراع الأمريكى ضد الصين، ناهيك عن دعم القدرات العسكرية لقوات تايوان، والأهم هو تكثيف التواصل السياسى والدبلوماسي مع تايوان، وكانت زيارة نانسى بيلوسي الرئيسة السابقة لمجلس النواب الأمريكى لتايوان (2/8/2022) هى المحطة الأولى فى هذه المواجهة بكل ما تعنيه من كشف مدى التحدى الأمريكى للصين فى عقر دارها بدعم صمود واستقلال تايوان لتبقى “مخرازاً أمريكياً موجهاً إلى العين الصينية”. وجاءت زيارة رئيسة تايوان “تساى اينج وين” للولايات المتحدة فى إطار جولة شملت جواتيمالا وبيليز ولقاءاتها الموسعة مع مسئولين أمريكيين بارزين من الحزبين الجمهورى والديمقراطى على رأسهم كيفين مكارثى رئيس مجلس النواب “جمهورى” (14/4/2023) لتؤكد الفهم الذى توصلت إليه وزارة الخارجية الصينية فى بيان لها وهو أن “اجتماع الأربعاء (اجتماع مكارثى مع رئيسة تايوان) انتهك بشكل خطير مبدأ الصين الواحدة” فى إشارة إلى السياسة التى تعترف بها واشنطن منذ عقود.
ردود الفعل الصينية على هذه الزيارة كانت حاسمة إذ قامت بكين بنشر حاملة طائرات قرب تايوان قبل ساعات من انعقاد لقاء كيفن مكارثى مع رئيسة تايوان، وأعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية أن “الولايات المتحدة وتايوان تآمرتا من أجل تعزيز علاقاتهما” الأمر الذى يمس بصورة خطيرة “بالسيادة الصينية” و”يشكل مؤشراً سيئاً يدل على دعم الانفصاليين التايوانيين”. ورصدت ثلاث سفن حربية أخرى فى اليوم التالى للقاء فى المضيق الفاصل بين الصين وجزيرة تايوان، كما عبرت مروحية مضادة للغواصات منطقة الدفاع الجوى في تايوان.
هذا التصعيد الصينى كان له وجه آخر مشابه من التصعيد عند التايوانيين والأمريكيين، حيث أكدت رئيسة تايوان ، أثناء وجودها بالولايات المتحدة، “أهمية الاجتماعات الحضورية مع مسئولين أمريكيين بالنسبة للأمن الإقليمى” داعية بكين إلى التزام الهدوء.
وكانت بكين التى تعتبر أن “قضية تايوان تقع فى صميم المصالح الجوهرية للصين، والخط الأحمر الأول، الذى لا يجب تجاوزه فى العلاقات الصينية – الأمريكية” قد صعدت مواجهتها ضد تعمد الولايات المتحدة تكثيف وجودها وأنشطتها العسكرية ودعايتها المكثفة ضد الحزب الشيوعى الصينى باعتباره “رمزاً للحكم الاستبدادى” حيث وصفت الخارجية الصينية (21/12/2021) ما أسمته بـ “الديمقراطية الأمريكية” بأنها “سلاح دمار شامل” فى تعليقها على “قمة الديمقراطية الأولى” التى كان قد عقدها الرئيس الأمريكى جو بايدن قبل أيام من هذا التاريخ” لدعم ما تزعمه واشنطن مسارات التطور الديمقراطى فى العالم. وقال المتحدث باسم الخارجية الصينية ، فى بيان نشر على الإنترنت، أن “الديمقراطية أصبحت منذ فترة طويلة سلاح دمار شامل تستخدمه الولايات المتحدة للتدخل فى الدول الأخرى”. تزامن هذا البيان مع التحذير الذى وجهته الصين للولايات المتحدة مؤكدة أنها “ستهاجم أى قوات ترسلها واشنطن للدفاع عن جزيرة تايوان” رداً على تهديد جاك سوليفان مستشار الأمن القومى الأمريكى حول “عدم سماح إدارة الرئيس جو بايدن بغزو بكين للجزيرة” ونشرت صحيفة “جلوبال تايمز” الصينية الناطقة باسم الحزب الشيوعى الصينى الحاكم تقريراً ذكرت فيه أن “بكين مستعدة لشن هجوم على أى قوات أمريكية، فى حال نشوب نزاع عسكرى في المنطقة” مشيراً إلى أن التهديدات الأمريكية تلك “ليست ذات مصداقية لأن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل تكلفة الدفاع عن تايوان”.
واضح إذن أن قضية تايوان أضحت “رأس الحربة” فى التمرد الصينى على الولايات المتحدة ، لكن أياً كانت الإجابة على سؤال: هل تقع الحرب بين الصين وأمريكا فى تايوان أو هل ستتحول تايوان إلى “أوكرانيا أخرى” بالنسبة للصين، فإن التمرد الصينى ضد الولايات المتحدة آخذ فى الاتساع والتنوع الكمى والنوعى وعلى مساحات جغرافية واسعة من العالم تؤكد جدية الصين للمنافسة على الزعامة الدولية.