“من الرموز إلى الحروف”.. تطور الكتابة عبر التاريخ
دعاء رحيل
توافق علماء الآثار على أن الكتابة قد نشأت في بابل ما بين 3500 و 3000 قبل الميلاد. وقد عثِرَ في بابل على أقدم كتابة معروفة، والتي كتِبَت بالخط المسماري البابلي، والذي يُمثِل حوالي 800 صورة بسيطة لأشياء شائعة الاستعمال وأفكار معينة. وسرعان ما تحولت هذه الصور من تمثيل الأشياء إلى استخدامها كرموز للمقاطع اللفظية، ثم أضِيفَت علامات أخرى للإشارة إلى التحولات النحوية.
تاريخ الكتابة
وتظهِرُ الألواح الطينية التي يعود تاريخها إلى حوالي 3200 قبل الميلاد والتي عثِرَ عليها في بابل، أن الكتابات الموجودة عليها كتِبَت بشكل واضح باللغة السومرية. وقد احتوت هذه الألواح على قوائم كلمات مصنَّفة في مجموعات ونماذج أدبية بدائية وقيود حسابية وسندات بيع. وظهر أن الصور قد تطورت بسرعة إلى مجموعات من الخطوط، مما أدى إلى نشأة الخط المسماري المشابه للأسافين. ثم جاءت اللغة الآكادية (الآشورية-البابلية) السامية وخطها، والتي اختلفت عن السومرية باستخدامها لرموز الكلمات السومرية كرموز للمقاطع.
في الجزء الغربي من الهلال الخصيب، كانت تُدوَّن لغة سامية أخرى بالخط المسماري في ذلك الوقت. وكذلك كانت تفعل اللهجات الهندية الأوروبية التي كان يتحدث بها أهل تركيا، والتي عرِفَت هذه اللهجات القديمة باسم “الحثية”. ومثلها، نشأت لغة أخرى شرقًا من ما بين النهرين، وهي اللغة العِلامية التي كان يتحدث بها أهل بلاد فارس. وظلت هذه المنطقة بأكملها تستخدم الكتابة المسمارية حتى القرن الميلادي الأول.
مراحل انتقالها
انتقلت فكرة الكتابة من بابل إلى مصر، فابتكر المصريون نظامًا جديدًا من الصور التي ترمِزُ إلى الكلمات، وسمِّيَتْ بالهيروغلافية. وكان بعض هذه الصور يكتَبُ أحيانًا للإشارة فقط إلى أصواتها (أي المقاطع)، ولكنها لم تستخدَمْ من دون رموز الكلمات، على عكس المسمارية. لذلك كانت الهيروغلافية أصعب تكيفًا لتناسب اللغات الأخرى.
استُخدِمَت الهيروغليفية في النقوش على المباني والأنصاب حتى القرن الخامس الميلادي، عندما توقف الناس عن استخدامها ومالوا إلى كتابة أبسط سُمِّيَتْ بالهيرية، والتي أصبحت لغة التدوين في السجلات العادية والرسائل والحسابات. وبعد العام 1000 ميلادية، طُوِّرَتْ من الهيرية كتابة تُعَدُّ نوعًا من الاختزال وعُرِفَتْ بالديموطية.
استخدِمَتْ أنواع أخرى من الكتابة في أجزاء أخرى من الشرق الأوسط ما بين 2000 و 1000 قبل الميلاد. فكان للحثيين في تركيا شكل خاص بهم من الهيروغلافية. واستخدِمَ في جزيرة كريت نظام كتابة أبسط، وقد اكتشفت ثلاثة أنماط منه متصلة بعضها ببعض. وآخر هذه الأنماط، الذي عرِفَ بالكتابة الخطية، ضم نحو 85 رمزًا من رموز المقاطع وبعض رموز الكلمات. لكن هذه الأنماط الكتابية كانت بشكل عام صعبة التعلم، بحيث اقتصر استخدامها وقراءتها على فئة من الكُتَّاب المحترفين. وهذا ما ساعد بعض الكتَّاب على تولي مناصب عالية في بلاطات الملوك.
أدرك أحد الكتَّاب في أرض كنعان أنه يمكن كتابة لغة ما دون الحاجة إلى استخدام الرموز المعدَّدة التي كان يستخدمها البابليون والمصريون، فدرس لغته ورسم علامة واحدة لكل حرف، باستثناء حروف العلة. ويبدو أنه اختار هذه العلامات على أساس تجريد رسم يمثِّلُ أول حرف من الكلمة التي تشير إلى هذا الرسم. لكن هذه الرسوم استخدِمَتْ فقط للإشارة إلى الأصوات، ولم تستخدم كرموز للكلمات. ولم توجد علامات مستقلة تشير إلى حروف العلة. وهذا ما جعل اللغات التي استخدمت هذه الرسوم صعبة التلاوة، مثل الفينيقية والعبرية القديمة.
علامات مكتوبة على الخزف
وفي هذا الصدد قالت أميمة الخيري خبيرة في التراث القديم، عثِرَ في فلسطين على أمثلة للألفباء الباكرة، وهي كلمات قصيرة جدًا، ربما كانت أسماء علامات مكتوبة على الخزف أو الحجر أو المعدن. وكذلك كتب بعض الكنعانيين العاملين في مناجم سيناء صلوات مخطوطة على الصخور والحجارة باستخدام حروف الألفباء، فتركوا لنا أفضل ما لدينا من عيِّنات للألفباء في مرحلتها الباكرة.
ونوهت الخبيرة في التراث القديم، بدأت الحروف في فترة لاحقة تتخذ شكلاً نموذجيًا. فقد أدرك الكُتَّاب الذين تدربوا على الأساليب البابلية في أوغاريت بسورية مزايا الألفباء مقارنةً بغيرها من أنماط الكتابات. وهناك ابتكروا ألفباء جديدة مؤلفة من ثلاثين حرفًا بالخط المسماري. وفي العام 1000 قبل الميلاد، ترسخت الألفباء على شكلها النهائي وتبناها المستوطنون الجدد في سورية من آراميين وعبرانيين وموآبيين وآدوميين. وبعد ذلك تعلمها الإغريق من الفينيقيين وأجروا عليها بعض التعديلات لتُلاِئِمَ لغتهم.
انتشرت قبائل سورية الآرامية في آشور وبابل بعد أن سَبَى الملوك الآشوريون كثيرًا منهم. وأخذ هؤلاء ألفباءهم معهم. وتَبَنَّى العبرانيون هذه الأنماط وعَمَّمُوْا استخدامها بينهم، مفَضِّلِيْنَ إِيَّاهَا على شكل الألفباء الفينقية-العبرية القديمة. كذلك اقتبسها الأنباط العرب. وشكل كتابة العربية المحَدَّثَة مشْتَقٌّ من حروف طورها الأنباط وغيرهم من قبائل العرب.