د. محمد السعيد إدريس يكتب: الانتصار لحوار الحضارات وشروطه
د. محمد السعيد إدريس يكتب: الانتصار لحوار الحضارات وشروطه
تكشف الانتكاسة التى تواجه دعوة أو عملية “حوار الحضارات” عن حقيقتين مهمتين؛ الحقيقة الأولى أن حسن النوايا لا تكفى لتأسيس علاقات بين الحضارات والأديان والثقافات تسودها “الثقة” والاحترام المتبادل والتسامح، لسبب أساسى أن العلاقات الدولية، وكما حسمت هذا الأمر منذ عقود طويلة “النظرية الواقعية” فى العلاقات الدولية، تقوم على “المصالح المتبادلة”. وعندما دعا مفكروا الغرب إلى اعتماد منهاجية “صراع الحضارات” كأساس لإدارة العلاقات الدولية بدلاً من “صراع الأيديولوجيات” عقب تفكك الاتحاد السوفيتى وسقوط النظام الدولى ثنائى القطبية والتفرد الأمريكى بالزعامة الدولية، كانوا مدفوعين بحرصهم على حماية التفوق الأمريكى بالأساس ، خاصة بعد الاستخلاص الخاطئ للمفكر الأمريكى فرانسيس فوكوياما بأن سقوط الاتحاد السوفيتى هو سقوط نهائى للأيديولوجية الماركسية من ناحية، وانتصار نهائى للأيديولوجية الرأسمالية وللنظام الرأسمالى العالمى من ناحية أخرى، أو كما أسماه فوكوياما بـ “نهاية التاريخ”، لذلك لم يكن العالم الغربى، بل العالم الأمريكى بدقة أكثر، مستعد لتقديم تنازلات لباقى أمم العالم الأخرى بحضاراتها وثقافاتها المختلفة فى تلك المرحلة، التى كانت تعنى بالنسبة لهم فرصة “الهيمنة والاستعلاء والتفرد الأمريكى على كل العالم بمن فيهم حلفاء الولايات المتحدة الأساسيين: أوروبا واليابان”. لذلك كان صراع الحضارات وليس حوار الحضارات هو الأكثر انسجاماً مع تلك الوضعية الأمريكية، التى لم تكشف عن مصلحة أمريكية فى دعوة “حوار الحضارات”.
أما الحقيقة الثانية التى تؤكدها انتكاسة دعوة “حوار الحضارات” على نحو ما هى متجلية الآن فى تلك العدوانية الأوروبية الشديدة ضد الإسلام والمسلمين فهى أن أى حوار لا يقوم على “التكافؤ” بمعناه الشامل: التكافؤ المادى فى القدرات الاقتصادية والعسكرية والعلمية والتكنولوجية، والتكافؤ المعنوى بين منظومة القيم والمبادئ والأدوار التاريخية. هذا التكافؤ فى القدرات المادية والمعنوية، كما يتجلى فى علو المكانة أو تدنيها، هو الذى يرجح فشل الحوار من عدمه .
هاتان الحقيقتان تكشفان بجلاء لماذا انتكست وستظل تنتكس دعوة حوار الحضارات وما يشابهها من حوارات الأديان وقمم قادة الأديان، فهذه الحوارات مازالت ترتكز على دعوة أخلاقية من جانب حضارات الشرق، خاصة الحضارة العربية الإسلامية، فهى تطالب بالتسامح والسلام، فى وقت تحكم فيه “المصالح” علاقات الشعوب، ثم أنها تنطلق من قدرات محدودة فى مصادر القوة المادية والمعنوية مقارنة بأمم الحضارة الغربية.
ولنفس السببين لم تفشل فقط دعوة “حوار الحضارات” بل فشلت أيضاً طموحات دول العالم الثالث خاصة الحضارات الشرقية فى أن تساعد “موجة العولمة” ، خاصة “أيديولوجية العولمة” أو ما عرف بالسعى إلى “عولمة العالم” وجعله بمثابة “قرية كونية” على نحو ما جرى الترويج له، فى تحديث وتطوير دول العالم الثالث، ووضع نهاية للصراع بين الحضارات، والأكثر من ذلك الطموح إلى نشوء “حضارة عالمية” بخصائص عالمية مشتركة بين حضارات العالم كأحد مخرجات عملية العولمة وانتشار أيديولوجية العولمة، فما يمر به “حوار الحضارات” الآن من أزمة سبقه حدوث انتكاسة فى طموح نشوء حضارة عالمية ، لأن الحضارة الغربية مازالت متمسكة بـ “عنصريتها” و”عنجهيتها” والسعى الدءووب إلى استمرار السيطرة والهيمنة على العالم، والحيلولة دون نجاح أمم مثل الصين وروسيا والهند وغيرها للتأسيس إلى نظام عالمى بديل أكثر عدالة وأكثر ديمقراطية ، تتنافس فيه القوى الدولية تنافساً سلمياً. بدليل الاندفاع الأطلسى المتزايد، والتورط الأطلسى المتزايد فى الحرب الأوكرانية بإمداد أوكرانيا بأسلحة دفاعية متطورة، وإبداء الاستعداد لإمدادها بأسلحة هجومية متطورة لهزيمة روسيا وللحيلولة دون خروج روسيا منتصرة فى هذه الحرب لوأد طموحها لتكون قوة عالمية منافسة على الزعامة الدولية، وبدليل التحرك الأمريكى لتأسيس شراكات دفاعية جنوب وشرق آسيا خاصة مع اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا لاحتواء القوة الصينية ، والحيلولة دون تمكين الصين من تحقيق طموحها لتكون قوة عالمية منافسة هى الأخرى على الزعامة الدولية.
هل هذه المساعى الغربية والأمريكية، بصفة خاصة، للحيلولة دون سقوط النظام العالمى الحالى لضمان استمرار السيطرة والاستعلاء الغربى بحضارته ومنظومته القيمية، تعنى انعدام فرص إنجاح دعوة حوار الحضارات؟ وقبلها هل العالم فى حاجة فعلاً إلى “حوار الحضارات” وبالتبعية حوار الأديان، وحوار الثقافات؟
هذا السؤال إجابته تكاد تكون محسومة وهى أن المصلحة العالمية تتحقق بالحوار والاحترام المتبادل بين الحضارات والأديان ، وليس العكس، لكن يبقى السؤال الأهم وهو كيف؟
والإجابة تتلخص فى السعى الدءووب لتحقيق التكافؤ فى القدرات والمكانة مادياً ومعنوياً بين الأمم، وهذا يفرض بداية ضرورة توفير أجندة خاصة للنهوض بالقدرات على المستويين العربى والإسلامى. فهذه هى المهمة الأولى الأجدى من التوسل والاستعطاف للغرب ومناشدته باعتماد “لغة الحوار” وليس “لغة الصراع” فى العلاقات مع الأمم والحضارات الأخرى. هذا يعنى ضرورة وجود استراتيجية للنهوض والتقدم فى القدرات على المستويين العربى والإسلامى.
تأتى المهمة الثانية وهى تأسيس مرحلة وسيطة من حوار الحضارات عبر التأسيس لـ “حوار حضارات الشرق” وبالتحديد الحضارة العربية – الإسلامية والحضارة الصينية والحضارة الهندية. ولحسن الحظ هناك فرص مواتية لتأسيس هذا النوع من الحوار، ارتكازاً على العلاقات التاريخية بين هذه الحضارات الرائدة فى تاريخ البشرية، واعتماداً على وجود شبكة قوية من المصالح المشتركة وتكافؤ القدرات، وإمكانية التأسيس لشبكة قوية وناجحة من “الاعتماد المتبادل” بين هذه الأمم والحضارات ، تدعمها تنوع القدرات وتكاملها.
نجاح النهوض بهذا المستوى من حوار الأمم الحضارية فى الشرق هو الذى يمكن أن يخلق فرصاً مواتية لحوار متكافئ على المستوى العالمى مع الحضارة الغربية، خاصة فى ظل حقيقتين؛ الأولى تقول أن قدرات القوى الغربية (أمريكا وأوروبا) فى أفول، بينما قدرات القوى الشرقية “الصين والهند ، والعالم العربى – الإسلامى” فى نهوض وفقاً لمؤشرات عالمية تؤكد هذه الحقائق. أما الحقيقة الثانية فهى أن العالم الغربى سيكون مضطراً إلى أخذ منهاجية حوار الحضارات عندما تفرض عليه مصالحه البحتة هذا التوجه، وهذا ما تؤكده مؤشرات الاقتصادات العالمية. تأتى بعد ذلك المهمة الثالثة وهى العمل على تأسيس منهاجية جديدة للحوار بين الحضارات تلغى نهائياً فلسفة “الاستبعاد” كقاعدة للعلاقات، وقاعدة “التمايز والاستعلاء” التى ظلت تحكم علاقات الغرب بالشرق، وبعدها يكون العمل على تأسيس نظام عالمى جديد يكون قاعدة صلبة لهذا الحوار المأمول يرتكز على خمسة قواعد مهمة أولها قاعدة المساواة بين الدول والحضارات، والقاعدة الثانية هى استبعاد “العداوة” بين الأمم والحضارات، أما القاعدة الثالثة إرساء قاعدة “انتشار القوة” وليس “تركزها” والرابعة تعظيم المصالح المشتركة وأخيراً تعميم قاعدة “المسئولية الجماعية” فى إنجاح الحوار، عندها فقط يمكن الانتصار لدعوة الحوار بين الحضارات .