كيف كانت التطعيمات في مصر قديما؟
مر تاريخ التطعيمات في مصر بالعديد من المراحل ما بين الممارسات الشعبية من ناحية ورفض الأهالي وخوفهم على أطفالهم من ناحية أخرى، وصلت حد مقاومة الأهالي للتطعيمات، وقبولهم ورضخوهم في النهاية. حكايات كثيرة وأحداث متغيرة شكلت وعي ووجدان المصريين خلال هذه الفترة.
التطعيم قديما
تاريخيا كان استخدام الطعوم من الممارسات الشعبية القديمة التي كانت منتشرة بين قبائل آسيا وإفريقيا، وانتقلت إلى الشركس في جورجيا الذين نقلوها فيما بعد للعديد من الدول ومن بينها مصر.
وكتب دومينيك لاري، الجراح العام لنابليون بونابرت في مذكراته: أن الحقن بالجدري “التطعيم” كان موجودا في مصر، وحسب وصفه للعملية التي كانت تقوم بها القابلة، حيث كانت تمسك بقطعة صغيرة من القطن، ثم تضعها في بثرة متقيحة من بثور الجدري، ثم تقوم بوضعها على ذراع الطفل المريض بعد خدشه، واعترف لاري أن تلك العملية كانت في العادة تنجح في تحصين الطفل، وذكر أن مدن الضواحي كانت الأكثر ممارسة لتلك التطعيمات حيث كان يقوم بها البدو في مطروح والفيوم.
كما ذكر أحد المراقبين الفرنسيين، الذي كان يعمل طبيبًا في الصعيد في الأربعينات من القرن التاسع عشر، أن البدو في صحراء الواحات المصرية كانوا يقومون بتطعيم أنفسهم من خلال جدري البقر، وهو ما يثبته بعد ذلك تقبل البدو للتطعيمات من قبل الأطباء دون الفلاحين في القرى، حيث كانوا يقومون به على طريقتهم البدائية.
البداية في مصر
بحسب ما جاء في كتاب “أرواح في خطر” لمؤلفته الأمريكية لافيرن كونكه، والذي يتناول أحوال الصحة في مصر خلال القرن التاسع عشر، وترجمه الدكتور أحمد زكي أحمد: أمر محمد على باشا في عام 1819 بإدخال التطعيم إلى مصر، وكان وقتها التطعيم ضد مرض الجدري الذي حصد أرواح الكثير من الأطفال، وكانت بداية استخدام التطعيم بشكل موسع عام 1821 عندما طلب الباشا من الطبيب دوساب الذي بقى بعد حملة نابليون أن يقوم بتطعيم وتلقيح الجنود السودانيين داخل القوات العسكرية التي توجد بصعيد مصر، بعد الوفيات المفزعة التي حدثت بينهم جراء مرض الجدري، لكن لسوء الحظ وتفشي المرض من قبل استمرت وفيات السودانيين، وهو ما جعل المصريين لفترة طويلة يرفضون التطعيمات.
وذكر أيضا، أنه قام محمد علي باشا في عام 1824 بإرسال فرق التطعيم التي على رأسها الأطباء الفرنسيين للتطعيم في القرى، بالإضافة إلى تدريب الحلاقين على طريقة التطعيمات، وهو ما جعل الحكومة ترسل تعليمات للأعيان والمشايخ ومشرفي المراكز الإدارية بالقرى لتسهيل مهمة الفرق الطبية، وخاصة في محافظات الفيوم وأسيوط والمنصورة.
وأفادت كونكه في كتابها، أنه بعد مرور 6 أشهر على التطعيمات أرسل أحد المواطنين بمحافظة الفيوم شكوى بأن هناك الكثير من الأطفال الذين قام فريق التطعيم بتطعيمهم أصيبوا مرة أخرى بالمرض، وهو ما جعل الحكومة تأمر وتصدر تعليمات إلى حاكم الفيوم بإجراء تحقيق والبحث عن تلك الحالات، وكنوع من التحفيز للحلاقين كانت هناك مكافأة قرش صاغ مقابل كل تطعيم يقوم به ويظهر رد فعل إيجابي بعد مرور 8 أيام وهي فترة حضانة المرض.
وبالفعل تم تطعيم كافة الطلاب بمدرسة الطب، والجنود بمعسكرات الجيش وزوجاتهم وأطفالهم، وأصبح التطعيم إجباريًا على جميع العاملين بالأسطول المصري والبحرية والمدارس وداخل المصانع للعمال وتم اختيار الحلاقين المحليين الأكثر كفاءة للقيام بتلك العملية.
برنامج التطعيم الموسع
وحسب وثائق عديدة في دار الكتب والوثائق، فإن عام 1836 شهد تفشي وباء الجدري في مدينة شبين الكوم مما استدعى من الحكومة أن تضع برنامجًا موسعًا للتطعيم، وتم إنشاء إدارة مركزية تعمل على تنفيذ التطعيم بشكل إجباري، وتمثل عملها في تولي المجلس الطبي مهمة التواصل الدائم بمجالس أوروبا الطبية لاستمرار إمدادات التطعيمات ومتابعة توريدها، يقوم الأطباء بالانتشار في جميع المحافظات لتطعيم المواطنين بجانب الحلاقين الذين تم تدريبهم في القرى، ويكون الصيادلة والأطباء في كافة الوحدات العسكرية والمستشفيات هم المسؤولين عن تطعيم جميع أفراد الهيئة العسكرية وطلبة المدارس الحربية وجميع الأطفال ممن لم يصبهم الجدري، يسجل جميع العاملين بالتطعيمات أسماء كل الأشخاص الذين تم تطعيمهم في الدفاتر ويتم ختم القوائم بعد اكتمالها بواسطة شيخ القرية ومفتش المركز بالإضافة إلى حاكم المديرية، وتم تحذير جميع القائمين على عملية التطعيمات من أخذ أي هبات من العائلات أو الأشخاص نظير قيامهم بعملية التطعيم التي كانت بالمجان.
وفي عام 1837 تم تأسيس محطة دائمة للتطعيم كان مقرها مستشفى الأزبيكة، وكانت الحكيمات هم نواة تلك الخدمة المحلية، وقال كلوت بك في مذكراته، إنه تم تأسيس عنبر بالمستشفى يتم إمداده بصفة مستمرة بالتطعيمات التي كانت تكفي على حسب قوله لتطعيم 15 ألف طفل سنويا، وكان يذهب إليها النساء من الطبقات الشعبية بأطفالهن لتطعيمهن، أما أطفال الطبقة العليا بالمدينة فكانت الحكيمات تتولى مهمة الذهاب إليهم لتطعيمهم في المنازل، وتم افتتاح مركز آخر للتطعيمات في عام 1856 في مدرسة الطب بالقصر العيني بمنطقة مصر القديمة، وقد نبهت الشرطة على الأهالي ونصحتهم بتطعيم أطفالهم في هذين المركزين المرخصين فقط، ونشرت نتائج التطعيمات في جريدة الوقائع المصرية.
معارضة التطعيمات
لم يمر برنامج التطعيمات الذي أقرته الحكومة المصرية في القرن التاسع عشر مرور الكرام دون مشاكل، بل على العكس فقد واجه معارضة قوية من قبل القرويين في مديريات مصر وقراها، وكان من بين المعتقدات السائدة والخاطئة التي جعلت المصريين وخاصة في القرى رفض التطعيمات، لاعتقادهم أن هذا الخدش جراء التطعيم ما هو إلا علامة يتم وضعها على أجساد أطفالهم لتجنديهم في الخدمة العسكرية فيما بعد إذا ما وصلوا إلى السن واعتبروه “وشم”، وكان يطلق على التطعيم باللفظ الشعبي “وشم الجدري”، وربطوا بينه وبين وشم الهلب الذي كان يوضع على جنود البحرية، وأنه للجنود السودانيين في الصعيد، بالإضافة لبعض الوساوس الدينية من اختلاط الدم وحرمانية تغيير مشيئة الله.
سيطر الخوف على الأهالي بالقرى، وهذا جعلهم يخفون أبنائهم ويهربون من الأطباء، وكان تعاملهم مع القائمين بالتطعيم في بعض الأحيان يتسم بالخشونة والعنف، وهو ما دعا “تشارلز كاني”، الذي كان يعمل موظفًا بالصحة بمصر الوسطى، أن يكتب تقريرًا أرسله للوالي يطلب منه حماية القائمين على التطعيمات والحلاقين من بطش الأهالي، حيث يتعرضون للضرب بالعصي من الفلاحين، كما ذكر “كاني” في تقريره أن بعض الموظفين تلقوا الرشاوى من أجل ترك أطفال الفلاحين دون علامة “تطعيم”، وقيل أن النساء الفقيرات ممن يعيشون على الزكاة والصدقات باعوا كل ما يمتلكون حتى يضعوا النقود أمام المشايخ لإقناعهم بالتجاوز عن طفل أو إثنين من أطفالهم دون علامة.
ويشير “كاني” إلى أن خوف الأهالي من فقدان أبنائهم دفعهم لمقاومة التطعيم سواء بالرشوة أو التهديد أو التضليل وإخفاء الأبناء، وذكر أن هناك قرية ديروط الشريف قد تمسكت بعناد ضد التطعيمات لمدة ثلاث سنوات وسمحت لهم في النهاية بتطعيم 12 طفلا فقط، وقد تعرض فريق الأطباء لحصار من قبل 200 من الفلاحين المسلحين فور نزولهم القرية، ولم ينقذهم سوى ظهور حاكم المديرية مع قواته مما ساعدهم على الهرب.
بعد رفض الفلاحين لسنوات ومقاومتهم للتطعيمات، بدأت المعارضة والمقاومة للتطعيمات تقل تدريجيا إلى أن اختفت، فقد لاحظ الفلاحون نتائج التطعيمات بأنفسهم حيث نجا الأطفال أصحاب “العلامات” من الجدري، بينما مات الكثير من الأطفال دون العلامات نتيجة الإصابة، وقد أشارت سجلات الأرشيف القومي المصري، تسجيل موظفي الحكومة في عام 1843 لأسماء سيدات ذهبن من تلقاء أنفسهم إلى المستشفى أو طبيب القرية لتطعيم أطفالهن.
وقرر الوالي تحفيزا للحلاقين الذين يقومون بالعملية بعد أن لوحظ أن أغلبهم ترك العمل لأسباب مالية، كما قرر أن يتم تعيينهم كموظفين صحيين، يتمتعون بكافة حقوق الموظف الحكومي، وتم اختيار 150 حلاق، و بحسب ما نشرته جريدة الوقائع المصرية رقم 59 في 7 إبريل عام 1846: أنه تم تدريب الحلاقين وتسلم كل حلاق منهم شهادة إتمام الدراسة، ومشرط طبي، وطريقة التطعيم والتعليمات مطبوعة للتذكرة، وأطلق عليهم الأهالي لقب “حلاق الصحة”، ولاحظ “كاني” أنهم عندما انتقلوا إلى قنا في عام 1848 كان الأهالي أقل عدوانية عما سبق، وهو ما شجع الحكومة على تدريب 214 حلاقا وزادت الأعداد بعد ذلك.
ونوهت “كونكه” في كتابها بأن الدكتور البريطاني ساندويز تولى عمله في عام 1884، كأول مدير إداري لقسم الشؤون الصحية، لكنه اكتشف أن عملية التطعيم لا تدار بشكل مضبوط وأن هناك 14 مدينة فقط هي التي يتم فيها التطعيم، أما المراكز الإدارية الأقل قد تركت لحالها ومنها “الفيوم والبحيرة وصعيد مصر”، ولاحظ أن من يقوم بالتلقيح هناك حكيم القبيلة، ويقوم بالعملية عن طريق خدش جلد المريض بواسطة سكين أو ريشة نعامة مسنونة، وكانت طريقة بدائية، كما كان المداويين الشعبيين في الإسكندرية والقاهرة يقومون بتلك العملية، وهو ما قد يعد خطرًا في نقل عدوى الزهري أو أنواع أخرى من الالتهابات، لذا وضع “ساندويز” معايير قياسية للتطعيمات ونشرها في كافة أنحاء مصر، وتم إنشاء المعهد القومي للتطعيم في عام 1896، وبعد مائة عام، وفي عام 1927 من إدخال تطعيم الجدري، وتم استبدال الحلاقين والقابلات في القرى ممن يقومون بالتطعيمات بأطباء وزارة الصحة، والتي أصبحت مستمرة إلى يومنا هذا مع إضافة تطعيمات الأمراض الأخرى الحديثة.