كتابنا

عبدالحليم قنديل يكتب.. على باب النهاية

بعد توقف برى فى الحرب الأوكرانية لبضعة أسابيع ، عادت القوات الروسية مع الحلفاء إلى حركة محسوسة متصاعدة ، تهدف لإجلاء القوات الأوكرانية عن مدن “كراماتورسك” و”سلافيانسك” و”باخموت” ، وهى المدن الثلاث الأكبر المتبقية خارج السيطرة الروسية فى مقاطعة “دونيتسك” ، وجرى الاستيلاء على بلدات مهمة فى الطريق إلى “باخموت” ، وبذات النفس الهادئ السلس لعمل القوات الروسية ، ودونما إعلان لحالة طوارئ ولا لتعبئة عامة ، ولا استدعاء لقوات الاحتياط الروسى ، وهو ما يرشح شهر الحرب السابع الذى يبدأ فى 24 أغسطس الجارى ، ليكون نقطة البدء فى إكمال استيلاء روسيا على كامل منطقة “الدونباس” ، وفى معارك شديدة الضراوة ، بعد حسم سابق فى كل مقاطعة “لوجانسك” انتهى بضم “ليسيتشانسك” ، يكتمل فيما يلى بإحكام السيطرة على سائرنواحى مقاطعة “دونيتسك” .

ولم يحدث أبدا للروس ، أن حددوا وقتا للحرب ، ولا لحدود الجغرافيا التى يريدون ضمها من أوكرانيا ، باستثناء مقاطعتى أو جمهوريتى “لوجانسك” و”دونيتسك” ، وقد بدأت العملية العسكرية الروسية الخاصة عقب اعتراف الرئيس الروسى باستقلال جمهوريتى “الدونباس” ، لكن الوقائع الحربية على الأرض ، دارت فى محاور أوسع ، وشملت حتى اليوم مقاطعات “خيرسون” و”خاركيف” و”ميكولاييف” و”زاباروجيا” ، وكلها خارج إقليم “الدونباس” ، إضافة لغارات ليلية عنيفة بالطائرات والصواريخ الموصوفة بعالية الدقة ، لم تستثن العاصمة “كييف” نفسها أحيانا ، ولا حتى “لفيف” فى أقصى غرب أوكرانيا ، وإن ركزت على “خاركيف” ثانى أكبر مدن أوكرانيا ، والواقعة على مسافة عشرين كيلومترا فقط من الحدود الروسية ، وعلى الأرض بدت الصورة أكثر وضوحا ، وبدت الحركة الروسية المتمهلة شاملة لقوس الشرق والجنوب الأوكرانى كله ، كانت المعركة فى “ماريوبول” نقطة تحول ، ومكنت الروس من حرمان كامل لأوكرانيا من إطلالتها على “بحر آزوف” ، بعد الاستيلاء المبكر على “ميليتوبول” و”خيرسون” جنوبا ، والسعى للسيطرة على “ميكولاييف” ، بهدف تحصين الوضع الروسى فى “خيرسون” بالغة الأهمية فى تزويد شبه جزيرة “القرم” بالمياه العذبة ، والتواصل البرى المباشر عبر “البحر الأسود” ، فوق أهمية “ميكولاييف” لخنق ميناء “أوديسا” الأشهر ، وقد عادت الغارات الروسية عليه بعد توقف جزئى موقوت ، ربما لمنح فرصة لتسهيل تنفيذ اتفاق تصدير الحبوب ، وإلى الشرق من “خيرسون” ، جرت السيطرة الروسية إلى الآن على ثمانين بالمئة من مقاطعة “زاباروجيا” ، بما فيها محطتها النووية ذائعة الصيت ، بينما يبدو اتساع السيطرة الروسية فى مقاطعة “خاركيف” ، وإلى نحو خمسين بالمئة من مساحتها ، نوعا من الدعم الميدانى الضرورى لأمن جمهوريتى “الدونباس” .

وتجميع أجزاء الصورة بعد تفصيلها ، يكاد يوحى بخرائط الهدف الروسى العسكرى المباشر ، الذى قد يتعرض لإعاقات وقتية ، من نوع الهجمات الأوكرانية من “ميكولاييف” على “خيرسون” ، فى هجوم مضاد روجت له الدوائر الغربية ، لكن حدته سرعان ما انكسرت ، وحلت محلها إغارات تخريب وراء الخطوط الروسية ، خصوصا فى بعض قواعد ومطارات شبه جزيرة “القرم” ، التى سبق لروسيا أن ضمتها بهجوم خاطف عام 2014 ، ومن العبث أن يفكر أحد فى استعادة أوكرانية للقرم ، أو حتى للمناطق التى سيطرت عليها روسيا فى قوس الشرق والجنوب الأوكرانى ، فلم يعد من أحد عاقل يجادل فى النصر العسكرى الروسى المحقق والمتوقع ، حتى وإن صح الاختلاف على مداه ، ولا فى طبيعة النزاع العسكرى الدائر ، فى صورة حرب ذات طابع عالمى جارية فى الميدان الأوكرانى ، حشد فيها الغرب وحلف الأطلنطى كل ما يملك من مال وسلاح ، وبإدارة مباشرة أمريكية وبريطانية بالذات لمعارك الميدان من “كييف” ، وبخيوط تحرك “عروسة ماريونيت” اسمها الرئيس الأوكرانى اليهودى الصهيونى “فولوديمير زيلينسكى” ، الذى يسعى بإلحاح متواترمحموم للقاء مع الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” ، يمتنع عنه الأخير ويضع شروطا قاسية ، أقرب لتوقيع أوكرانيا على وثيقة استسلام شامل ، وهو ما يحاول التوسط فيه الرئيس التركى “رجب طيب أردوغان” ، بذهابه للقاء “زيلينسكى” فى مدينة “لفيف” ، بعد لقاء ذهب إليه “أردوغان” مع “بوتين” فى “سوتشى” ، وعاود عرض استضافة قمة روسية أوكرانية فى تركيا ، بعد نجاح الأخيرة فى إبرام اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية والروسية ، وهو ما قد يغرى الرئيس التركى بتكرار المحاولة على نطاق أوسع بحثا عن نهاية للحرب ، يستعين فيها باصطحاب أمين عام الأمم المتحدة “جوتيريش” ، وإن كانت المحاولة تواجه بحزم “بوتين” وشروطه من جهة ، وبامتعاض غربى أطلنطى من اقترابات “إردوغان” مع “بوتين” ، فلم يعد الغرب يأمل فى نصر أوكرانى ، ولا فى هزيمة روسية ، تروج لها حروب الدعاية “الكاريكاتيرية” ، وإن كان الغرب “الأنجلوساكسونى” بالذات ، يصعب عليه أن يسلم بالنتائج ، وبقدرة أثبتتها روسيا على التدمير المنتظم لأكثر الأسلحة الغربية تطورا فى الميدان الأوكرانى ، فقد أدت الضربات الروسية إلى إعطاب نحو خمسين ألف طن من الأسلحة المهداة غربيا للجيش الأوكرانى ، إضافة لتحلل متزايد فى بنية الأخير ، وسريان موجات من التمرد والعصيان فيه ، أطفأت نار ووهج أساطير المقاومة الأوكرانية العنيدة ، وحولت دعما غربيا بما يزيد على مئة مليار دولار ، إلى بضاعة تسرق وتباع فى سوق العصابات ، أو تذهب الأسلحة بشحمها إلى حوزة روسيا رأسا ، فى عمليات متصلة ، برغم إقالات “زيلينسكى” لعشرات من رجاله بتهمة “الخيانة العظمى” ، ولا يعقل أن يتقدم “بوتين” لاعب الشطرنج المحترف ، وأن يمد حبل نجاة إلى “زيلينسكى” فى لحظة انكشاف خيبات الأخير ، الذى لا يرجح أن ينجح “إردوغان” فى تعويمه ، اللهم إلا إذا وقع اتفاق استسلام للروس ، وهذا ما لا يستسيغه الرئيس الأمريكى “جوبايدن” ، الذى أفلت منه زمام القصة كلها ، ويستعد لتلقى هزيمة حزبه المرجحة فى انتخابات تجديد نصفى للكونجرس أوائل نوفمبر المقبل ، الذى قد يكون التاريخ نفسه ، الذى قد يلجأ فيه “بوتين” إلى وقفة تعبوية لقواته ، بعد تحقق غالبية أهدافها ، وإعلان هدنة سلاح مشروطة مع تساقط أوراق الخريف ، وفرض أمر واقع معزز فى الشرق والجنوب الأوكرانى ، وجعل المساس به سببا فى عودة لإطلاق النار ، وتوريط الغرب كله فى “حرب شتاء” قاسية ، يكسبها الروس كما العادة التاريخية.

والمحصلة بالجملة ، أن الكسب الروسى يبدو ظاهرا فى مطلق الأحوال ، سواء فى الدائرة الأوكرانية الأضيق ، أو على النطاق العالمى الأوسع ، فقد انتهت العقوبات الغربية ذات العشرة آلاف صنف إلى بوار أكيد ، وعادت بآثارها الوبيلة للمفارقة على اقتصاد الغرب أولا ، وضرب التضخم والركود اقتصادات أمريكا وأوروبا الأطلنطية ، وتدحرجت رءوس حكومات غربية أوروبية ، وبات الرئيس الأمريكى نفسه ، مهددا بالتحول إلى “بطة عرجاء” فى البيت الأبيض ، مع الخسارة المرجحة لحزبه “الديمقراطى” فى انتخابات مجلسى النواب والشيوخ ، وقد يتحول “بايدن” بعدها إلى نصف رئيس أو حتى ربع رئيس ، وبالذات مع تدهور صحته البدنية والعقلية وتكاثر علامات “خرف” الشيخوخة ، وفشله الظاهر فى تحويل حرب أوكرانيا إلى “أفغانستان ثانية” لاستنزاف الروس ، بينما نجح “بوتين” بثباته العصبى المذهل فى قلب المائدة ، وتحويل حرب أوكرانيا إلى “أفغانستان ثانية” لأمريكا وحلف الأطلنطى ، وصولا ربما لتكرار ذات الخروج المهين ، على النحو الذى جرى قبل شهور فى مطار “كابول” ، مع تزايد صرخات الأوروبيين حكومات ومحكومين ، وسريان الفزع من تلاحق كوارث الاقتصاد والمناخ وجفاف الأنهار ، والضيق الشعبى المتزايد بعبء فواتير أوكرانيا الثقيلة ، والميل للتملص من تعهدات التورط من وراء ومع أمريكا ، التى لم تجلب لهم سوى دواهم الأزمات المتفاقمة ، والرعب المقيم من شتاء قارس البرودة ، مع إنخفاض إمدادات الطاقة الروسية بالغاز والبترول ، فيما يبدو الاقتصاد الروسى متماسكا لا يزال ، وتأثره بالعقوبات أقل مما كان منتظرا ، وعملته “الروبل” فى أقوى حالاتها على مدى عشرين سنة مضت ، وتحالفه مع الصين أكثر وثوقا وفاعلية ، وبالذات مع استفزازات أمريكا للصين فى جزيرة “تايوان” وحولها ، فالاقتصاد الصينى هو الأكبر والأول عالميا بمعايير تعادل القوى الشرائية ، وبدا كوسادة هوائية هائلة ، امتصت صدمات العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسى متوسط الحجم ، وأضافت لميزاته الفريدة من موارد الطاقة والحبوب ، وفتحت لها أسواقا بديلة ، شجعت موسكو على الضرب بقسوة فى حروب التطاحن الاقتصادى مع الغرب ، وتحدى هيمنة الدولار، ومد شبكات أمان عالمية ، وطرق تبادل ودفع جديدة بالمقايضات والعملات الوطنية ، عبر منظمات اقتصاد تتحلق حول الصين ، من نوع “منظمة شنجهاى” ودول “بريكس” و”بنك التنمية” العالمى الجديد ، وعلى أساس علاقة “بلا حدود” ، توافقت عليها موسكو وبكين فى وثيقة صدرت قبل عشرين يوما من اطلاق شرارة الحرب ، لن يكون ذهاب قوات مناورات صينية إلى روسيا آخر أشواطها وعناوينها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى