تاريخ ومزارات

ليلة استيقظت فيها الخيانة.. تفاصيل أحداث معركة التل الكبير

أسماء صبحي

في يوم 13 سبتمبر من عام 1882، كان آلاف الفلاحين قد تجمعوا في صحراء التل الكبير يحفرون الخنادق. ويقيمون المتاريس والاستحكامات من الطين والرمل تحت إشراف مهندس عبقري من رجال عرابي هو محمود باشا فهمي.

لم يكن هؤلاء الفلاحون يقرأون أو يكتبون، ولكنهم كانوا يحسون بالموقف. فالإنجليز قد نزلوا بر مصر بجنودهم، بهدف القضاء علي ثورة عرابي. وهؤلاء العرابيون المصريون فلاحون مثلهم، يقفون في وجه الخطر دفاعًا عن وطنهم. وقد فاجأتهم الحرب، ونزول الإنجليز في الإسكندرية، ثم في السويس، والخزانة خاوية. وليس في البلد جيش منظم أو ذخيرة أو طعام، حتي الملابس التي يرتديها الجنود كانت غير متوافرة.

أخذ كل مواطن يستغني عن شيء يملكه، فانهالت على الجيش الأقمشة والمواشي والحبوب. الأغنياء والفقراء يجودون بما عندهم، والمشايخ في المساجد يدعون الله ويرفعون الابتهالات. والنسوة في المنازل يجهزن الأقمشة ويكلن الحبوب، والفلاحون القادرون يتطوعون للقتال. قتال لا يعرفون من فنه شيئا، أو للمشاركة في حفر الخنادق. وإقامة الاستحكامات من الطين والرمل تحت إشراف محمود فهمي باشا.

خيانة محمد سلطان باشا

جاء عرابي مسرعًا من كفر الدوار واستدعي جميع الفرق العسكرية المتفرقة هنا وهناك، وتمكن من تأمين استحكاماته. وبحث الإنجليز، فلم يجدوا إلا “محمد سلطان باشا” الذي وضع خطة محكمة للقضاء على جيش عرابي، وكانت وسيلته “الرشوة”.

كان أول ما فعله هذا الخائن الكبير، أن جَنَّدَ “سعود الطحاوي” وهو شيخ من شيوخ العرب، وصديق حميم لأحمد عرابي ومن بلدياته. وكان عرابي يثق فيه ثقة عمياء، ويسهر معه كل ليلة فيعرف الطحاوي أخباره ونواياه ثم ينقلها إلى “سلطان باشا” الذي ينقلها بدوره إلى الإنجليز.

لم يكتف “سلطان باشا” بذلك بل قام بتجنيد كبار القادة في الجيش لصالح الإنجليز. فقد جَنَّدَ “أحمد عبد الغفار” قائد سلاح الفرسان، ونائبه “عبد الرحمن حسن”. والقائم مقام “علي خنفس” قائد سلاح المشاة، واستطاع كل منهم أن يشتري عددًا من الضباط المرؤوسين. بعد أن وعد الإنجليز هؤلاء القادة الخونة بأنهم سوف يقبضون عشرة آلاف جنيه ذهب. ومنحوا كلاً منهم ألف جنيه مقدمًا.

أما أحمد عبد الغفار ونائبه فقد تقاعسَ عن حراسة جيش عرابي المرابط في التل الكبير، وسَهَّلوا للإنجليز المرور بدون أية مقاومة.

الاستعداد لمعركة التل الكبير

أما خنفس باشا هو لقب عرف به الضابط المصري علي يوسف. أميرالاي الثالث “بيارة” الذي كلفه عرابي بموافاته بالأخبار يومًا بيوم عن تحركات الإنجليز فلم يصدق معه. فقد أرسل علي يوسف من مقدمة الجيش إلى “عرابي” يبلغه بأن الإنجليز لن يتحركوا في ذلك اليوم. وهذا ما أكده الطحاوي الذى زار عرابي فى خيمته وأقسم له أن الإنجليز لن يهجموا قبل أسبوع. ليتسلل خارجاً إلى صفوف الإنجليز متقدماً صفوفهم ليرشدهم إلى الطريق.

تأهب القائد الإنجليزي ولسلي في مساء اليوم ذاته للزحف في هدوء تام بعد منتصف الليل. فانسحب عبدالرحمن حسن، قائد فرقة الاستطلاع السواري الذي كان يحرس الطريق الصحراوي من الشرق.. انسحب شمالًا ليخلي الطريق لمرور الإنجليز، أما على يوسف (خنفس باشا) فلم يكتفِ بترك الجيش الإنجليزي يمر بجوار قواته. بل وضع له الفوانيس على المسالك التي يمكن السير فيها بيسر.

عندما اقتربت الساعة من الرابعة والدقيقة الخامسة والأربعون أعطيت إشارة الهجوم. وانطلق ستون مدفعًا وأحد عشر ألف بندقية، وألفان من الحراب. تقذف الجند النائمين، الذين قاموا علي صرخة واحدة، والذين وقعوا ضحية للخيانة.

هزيمة الجيش المصري في التل الكبير

كان عرابي يصلي الفجر علي ربوة قريبة حين باغته الهجوم وسقطت قذيفة مباشرة علي خيمته. فتركها طعمة للنيران، وأسرع وامتطي جواده، ونزل في ساحة المعركة. فأذهله أن رأى جنوده يفرون، ووقف يحاول عبثا جمعهم
ولكن ضاع صوته في انفجارات القنابل وطلقات الرصاص. وكادت المدافع تصيبه، ولكن خادمه لوى عنان فرسه قهراً عنه فأنقذ حياته. وانطلق يعدو بجواده إلى بلبيس ليحاول عبثًا أن يقيم خطًا ثانيًا للدفاع عن القاهرة.

وفي فجر الثالث عشر من سبتمبر وقعت الهزيمة الكبرى بالجيش المصري في التل الكبير. وفي 15 سبتمبر بلغ الإنجليز منطقة العباسية، ومنها ساروا إلى القلعة. فأكمل خنفس باشا خيانته بأن سلم الإنجليز مفاتيحها حيث كان بها أربعة آلاف جندي.

بعد الهزيمة، زارَ السير “تشارلز ويلسون” أحد القادة الإنجليز، القائد المنهزم “أحمد عرابي باشا” في سجنه. وأخرَجَ له بعض الأوراق عرضها عليه، وسأله: “أليس هذا خطك يا عرابي باشا؟ قال: بلى. فسأله: أليست هذه خطتك ضدنا؟، قال: بلى. فقال القائد الإنجليزي. لقد حصلنا على خطتك هذه من أحد قادة جيشك. ولو أنك نفذتها ضدنا، لانتصرتَ علينا بغير شك”.

مصير الخونة

كافأ الخديوي، الخائن “محمد سلطان باشا” بعشرة آلاف فدان وعشرة آلاف جنيه ذهب. كما كافأ الخائن الثاني “سعود الطحاوي” صديق عرابي الحميم وبلدياته بألفيّ فدان وألفيّ جنيه ذهب.

أما الخائن “علي خنفس” فقد أحيل إلى الاستيداع بمعاش اثنى عشر جنيها. وعاش بقية حياته محتقرًا من الجميع لا يكلمه أحد من أهله أو جيرانه، وظل يطالب الإنجليز بما وعدوه إياه بدون جدوى. إلى أن مات وحيداً ومحتقراً من الجميع.

أما الخائن “أحمد عبد الغفار” فقد أودع السجن مع الضباط الوطنيين فكان عذابه بذلك أشد ما يكون. وذهَبَتْ زوجته لكي تصرف من الجنيهات الذهبية التي أعطوها له مقدما، فاتضح أنها مزيفة، أما عبد الرحمن حسن” فقد اختفى تماما، ولم يعرف عنه أي شيء.

أنعمَ الإنجليز على الخائن الأكبر “محمد سلطان باشا” بلقب “سير”، وأصبح اسمه “السير محمد سلطان باشا”. ولكن هذا اللقب لم ينفعه، ولم تنفعه الأرض الزراعية الشاسعة، ولا آلاف الجنيهات الذهبية التي منحها له الخديوي. إذ قاطعه أهل حي السيدة زينب الذي كان يسكن فيه، حتى الخدم الذين كانوا يعملون في بيته احتقروه وتركوه وحيدا.

عاش سلطان باشا منعزلا عن الناس، واستيقظ ضميره فجأة. وأخذ يؤنبه على الجرم الفادح الذي ارتكبه في حق مصر وحق عرابي وشعر بألام نفسية لا يتحملها أحد. وأصيب بلوثة عقلية، وأخذ يمشي بين الناس ذاهلا عما حوله إلى أن مات وهو يردد جملة واحدة: “اغفر لي يا عرابي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى