عبد الحليم قنديل يكتب.. الهستيريا الأوكرانية
الذى يتابع “حفلة الزار” التى يقيمها ويشيعها الإعلام الغربى ، قد يتخيل أن يوم القيامة سيحل غدا ، وأن مركز جهنم ربما يكون فى “أوكرانيا” ، التى تحشد روسيا على حدودها جيشا بكامل عتاده من مئة ألف جندى ، بوسعه احتلال أوكرانيا فى عشرين دقيقة ، فيما تمد أمريكا وبريطانيا جسورا جوية كثيفة إلى “كييف” عاصمة أوكرانيا ، تنقل إليها مئة طن عتاد حربى متطور كل يوم ، إضافة لمئات ربما آلاف من المدربين العسكريين ، مع سحب الرعايا المدنيين والدبلوماسيين ، وتعبئة لحشد 50 ألف جندى من أمريكا وحلف الأطلنطى فى شرق أوروبا المجاور لأوكرانيا ، وكل ذلك من أجل الضغط على “فلاديمير بوتين” قيصر الكرملين ، وردعه ومنعه من إطلاق رصاصة الجحيم الأولى .
وفيما تبدو “موسكو” هادئة الأعصاب ، ويدير بوتين لعبته الخطرة ببرود لاعب الشطرنج المتمكن ، ويمضى وقته بالفرجة على انفلات أعصاب غريمه الرئيس الأمريكى “جو بايدن” ، الذى التقاه واقعيا وافتراضيا لمرات ، ونصحه فى كل مرة ربما على سبيل النكاية ، أن يلتفت إلى أحواله الصحية ، فيما تبدو صحة بايدن الثمانينى العمر إلى تدهور مضاف ، ولا يتمالك نفسه بسبب استفهام مباغت من مراسل محطة “فوكس نيوز” فى البيت الأبيض ، سأل الرئيس عن زيادة معدل التضخم وأثره على مستقبله السياسى ، ولم يرد بايدن ، وإن التقط الميكروفون الحساس همهماته ، وهو يشتم مراسل المحطة التليفزيونية الموالية تقليديا لمنافسه اللدود “دونالد ترامب” ، وينعته بالغبى و”ابن …….” ، ثم نصح المساعدون رئيسهم بلم الموضوع والاعتذار هاتفيا للمراسل ففعل فورا ، فى واقعة تكشف ضعف اتزان بايدن ، الذى تمنى فى مؤتمر صحفى قبلها بأيام ، أن يكون توغل قوات بوتين محدودا فى أوكرانيا ، وهو ما أفزع حليف واشنطن فى “كييف” الرئيس اليهودى “فولوديمير زيلينسكى” ، وبما دفع بايدن إلى إعادة تصحيح أقواله ، وعقد اجتماع عاجل مع مجلس الأمن القومى الأمريكى ، ووضع الآلاف من قوات الجيش الأمريكى فى حاله تأهب قصوى ، وتنظيم اجتماع افتراضى مع قادة فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا وبولندا والاتحاد الأوروبى ، وتسريب اتفاقات مع أوروبا على خفض استيراد الغاز الروسى بنسبة 43% والبترول بنسبة 20% ، وهى تهديدات أقل كثيرا من عقوبات تهدد بها واشنطن موسكو فى حالة غزو أوكرانيا ، وتصل إلى الخنق الكامل للاقتصاد الروسى الضعيف نسبيا (1.7 تريليون دولار) ، وحظر تصدير التكنولوجيا الإلكترونية المتقدمة إلى روسيا ، من ألعاب الفيديو حتى برامج “الحوسبة” وتقنيات الذكاء الاصطناعى ، فيما بدت ألمانيا بالذات ، وهى صاحبة الاقتصاد الأوروبى الأكبر ، أقل حماسا فى التعاطف مع أوكرانيا ، وفى التوسع بالعقوبات ضد موسكو ، ورفضت توريد أسلحة إلى “كييف” ، وبين موسكو و”برلين” خط الغاز الضخم “نورد ستريم ـ 2” ، المنافس الأعظم لخط نقل الغاز الروسى عبر أوكرانيا ، فيما تتلاعب موسكو بأعصاب الحلفاء عبر الأطلنطى ، وتوقف من جانبها تصدير الغاز الروسى ضغطا على الدول الأوروبية ، وتقرر إجراء مناورات بحرية بالقرب من شواطئ “أيرلندا” ، وكأنها تريد نقل التهديد العسكرى من مناورات الشرق فى “بيلاروسيا” إلى الساحل الغربى لأوروبا ، والرد مباشرة على مناورات مقررة لأمريكا وحلف الأطلنطى فى البحر المتوسط ، والوصول بخط سير الحوادث والمناورات والحشود إلى حافة الرعب النووي.
ولا تبدو موسكو فى عجلة من أمرها ، فمطامحها أبعد من “أوكرانيا” الخائفة المنشقة على نفسها ، وفيها خمس السكان من أصول روسية ، والجوار الجغرافى يمنح موسكو ميزة الدعم المباشر لجمهوريات منطقة “الدونباس” الأوكرانية ، الراغبة بالانفصال والانضمام لروسيا ، التى تزود حلفاءها بما يحتاجونه من سلاح ، يفيد فى الضغط على الاتجاهات الموالية للغرب فى “كييف” ، وقد تحتاج موسكو فى وقت لاحق إلى غزو عسكرى خاطف ، على نحو ما فعلت عام 2014 ، حين قررت موسكو انتزاع ” شبه جزيرة القرم” وميناء “سيفاستويول” من أوكرانيا ، وكان بايدن حينها نائبا للرئيس الأسبق “باراك أوباما” ، واكتفت واشنطن مع الاتحاد الأوروبى وقتها بتوقيع عقوبات اقتصادية على موسكو ، تحلل أثرها مع مرور الزمن ، ومع فرض وقائع جديدة ، نسى معها الغرب جبرا قصة “القرم” ، التى صارت روسية ، فى حين دفع بوتين إلى الواجهة بقضية الانفصاليين الروس فى شرق أوكرانيا ، ووقع مع فرنسا وألمانيا وأوكرانيا نفسها اتفاق “مينسك” ، الذى ينص على توسيع الحقوق القومية والحكم الذاتى للروس فى “أوكرانيا” ، وهو ما تريد برلين وباريس ، الأضعف ميلا لمسايرة “الهستيريا” الأمريكية ضد موسكو ، أن تجددا مفاوضاته اليوم ، فى سعى أوروبى للتهدئة مع موسكو ، التى يتقاطر إليها وزراء وقادة غربيون ، بينما موسكو تبتسم للمذعورين ، وتؤكد أنها لا تنوى غزوا لأوكرانيا فى المدى المنظور ، وأنها تكتفى بحشد قواتها داخل حدودها ، وتصمم على مطالبها المودعة خطيا لدى واشنطن ، وأهمها وقف توسع حلف الأطلنطى شرقا ، والتعهد كتابة بعدم ضم “أوكرانيا” و”جورجيا” للحلف ، والاعتراف الواقعى بعودة روسيا إلى دور عالمى ، استنادا لقوتها العسكرية والصاروخية والنووية المتفوقة ، مع بقاء التهديد باتخاذ “إجراءات عسكرية وتقنية صارمة” ، إذا ما جرى التلكؤ فى تلبية مطالب بوتين ، وهو ما ترى واشنطن فى قبولها هزيمة مذلة ، وإن اضطرت للرد كتابيا طلبا لتفاهم مع موسكو ، فليس عندها من بديل ، اللهم إلا التسويف فى قبول إلحاح “كييف” بتسريع ضمها إلى الحلف درءا لاحتمالات الغزو الروسى ، فليس بوسع الجيش الأوكرانى مهما تلقى من سلاح ، أن يصمد لدقائق فى مواجهة الجيش الروسى ، وليس بوسع أمريكا وحلف الأطلنطى الاستجابة لمطالب الرئيس الأوكرانى المفزوع ، ولا الدخول فى صدام حربى مع موسكو ، قد لا ينتهى بغير تدمير العالم كله عشرات المرات ، وهو ما يشجع بوتين على المضى قدما إلى حافة الهاوية ، تسريعا لإذعان واشنطن عمليا لمطالبه ، ومواصلة حرب الأعصاب إلى أقصى حد ، ودفع أوروبا للإنشقاق الفعلى عن واشنطن ، فبوسع صواريخ تطلق من غواصة نووية روسية واحدة ، أن تدمر عواصم أوروبا كلها فى غمضة عين ، ودول الاتحاد الأوروبى تدرك خطر أصغر خطأ فى الحساب الاستراتيجى ، وتبدو أقل اندفاعا فى معاندة موسكو ، التى عادت تعزف على إيقاع العصر السوفيتى ، وتسعى إلى عكس الهزائم التى لحقت بها بعد انهيارات موسكو الشيوعية السابقة ، وتحلل الاتحاد السوفيتى ونهاية “حلف وارسو” ، وحنث واشنطن بوعود سابقة أعطتها لموسكو “جورباتشوف” و”يلتسين” ، وضمها لدول أوروبا الشرقية إلى حلف الأطلنطى “الناتو” ، وتعدى حدود العام 1997 ، وضم المجر (هنغاريا) وبولندا والتشيك ، ثم ضم بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا عام 2004 ، وضم جمهورية “الجبل الأسود” عام 2017 ، وصولا إلى ضم جمهوريات البطليق الصغيرة (ليتوانيا ـ لاتفيا ـ أستونيا) الملاصقة تماما لروسيا ، وهو ما يعنى نصب شبكات الصواريخ والأسلحة النووية الأمريكية لصق حدود روسيا ، وهو ما جابهته روسيا بوتين بالقوة المباشرة ، على نحو ما فعلت فى “جورجيا” أواسط عام 2008 ، بعد شهور من دعوة أمريكا لضمها إلى حلف الأطلنطى ، وكان الرد غزوا روسيا خاطفا لجورجيا ، وانتزاع إقليمى “أبخازيا” و”أوسيتيا الجنوبية” ، ومن وقتها ابتلعت واشنطن لسانها ، ولم تعد تتفوه بكلمة عن ضم “جورجيا” لحلف الأطلنطى ، وهو غالبا ما ستفعله واشنطن فى حالة أوكرانيا ، التى وجهت لها دعوة الانضمام ذاتها منذ عام 2008 ، ومرت 14 سنة دون تنفيذ ، فلم يعد بوسع واشنطن تحدى اعتبارات موسكو الأمنية ، ولا مواصلة الاستفزازات والإهانات ، على نحو ما فعل الرئيس الأمريكى الأسبق أوباما ، حين وصف موسكو بأنها صارت “قوة إقليمية” لا قوة عالمية ، ومع ذلك لم يجرؤ على مواجهتها عسكريا وقت غزوة “القرم” ، ولا جرؤ الرئيس الأمريكى الحالى “بايدن” على ردع موسكو بعد تدخلها العسكرى السريع الحاسم مؤخرا فى “كازاخستان” ، ومساحة الأخيرة تعادل مساحة أوروبا الغربية بكاملها ، وهى عضو فى “منظمة الأمن الجماعى” التى تقودها موسكو ، وتضم إليها “بيلاروسيا” و”أرمينيا” و”قيرغزستان” و”طاجيكستان” و”كازاخستان” ، وأعلنت عام 2002 عقب الغزو الأمريكى لأفغانستان ، وبدت كمحاولة من بوتين لاستعادة أراضى الاتحاد السوفيتى السابق أمنيا ، وكتعويض عن غياب “حلف وارسو” ، مع تقوية أواصر التحالف الوثيق مع التنين الصينى الزاحف عالميا ، وبناء مشهد استقطاب جديد على القمة الدولية ، تعادل فيه قوة الصين الاقتصادية قوة أمريكا ، وتتكامل فيه قوة روسيا العسكرية مع قوة الصين الكبرى ، وتضعان معا حدا نهائيا للعربدة الأمريكية ، على نحو ما حدث ويحدث فى “أوكرانيا” ، التى تحولت إلى أسخن مسارح الحرب الباردة الجديدة ، ولا يبدو أن واشنطن قد تكسبها ، وهى التى خرجت ذليلة مستنزفة قبل شهور من أفغانستان .