تربويات نصر أكتوبر

أ.د. محمد رجب فضل الله يكتب…
بكل (مهارات التواصل) نعيش – من بداية أكتوبر، وحتى نهايته – من كل عام، ذكريات النصر في حرب أكتوبر المجيدة، عشناها هذه الأيام، وللعام الثامن والأربعين:
(نستمع ونستمتع) بقصص البطولة وحكايات الرائعين من قادة وجنود جيشنا المصري العظيم ، (نحكي ونعبر) عن اعتزازنا وفخرنا بالعبور ، وتحرير الأرض، واسترداد الكرامة، (نقرأ ونفهم) روايات وكأنها الخيال عن معارك وأحداث، (نكتب ونؤلف) ما تتناقله الأجيال عن عظمة رد الاعتبار، واستعادة الأرض المغتصبة لمدة ست سنوات (1967 – 1973) في ست ساعات، بعد عبور أصعب مانع مائي ، واختراق أكبر ساتر دفاعي، وتحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر .
ويتبقى – دوماً أن (نفكر ، ونتأمل) في هذا الحدث العظيم ، والعلامة البارزة في التاريخ الحديث، والعمل الخالد الذي يجب أن نعيه، ونهتدي بدروسه، جيلاً بعد جيل. من حيث: التخطيط السليم، والتنفيذ بإخلاص وإتقان، والمراجعة المستمرة، والمتابعة الدائمة من أجل التطوير والتحسين.
إنها روح وممارسات وتربويات أكتوبر، والتي يجب أن تنشأ عليها الأجيال، ويقتدي بها الصغار والكبار؛ تربويات توجه تفكيرهم، وتدعم سلوكهم، وتعزز قيمهم واتجاهاتهم نحو الانتماء والوطنية، والعمل والإنتاج، والإصلاح والتطوير، إنها أساس رؤية مصر للتنمية. إنها ركيزة الجمهورية الجديدة.
ونحن على مقربة من اليوبيل الذهبي لانتصارنا الخالد في حرب أكتوبر 1973م ، وطوال السنوات الــــ (48) السابقة لم تتوقف تحليلات الاستراتيجيين والعسكريين والسياسيين للخطط ، والمعارك ، والأحداث المرتبطة بهذه الحرب، ومازالت التفسيرات والتحليلات لم تبُح بكل أسرار هذه الجولة من الصراع العربي الإسرائيلي. إنها العظمة الاستراتيجية والعسكرية والسياسية لنصر أكتوبر العظيم.
ولا تتوقف نواتج هذا النصر العظيم عند مستخلصاته: الاستراتيجية والسياسية والعسكرية، بل تمتد إلى أمور اقتصادية واجتماعية ونفسية رصدها علماء الاقتصاد، ورواد المجتمع، والخبراء النفسيون على مدى الأعوام السابقة: كتابات ، ودراسات، ومقالات لم تنته، ولن تنتهي.
ويجدر بالمتأمل لنصر أكتوبر من حيث التخطيط له، والمتفكر في أحداثه، والمتعمق في نواتجه أن يرصد الأخلاقيات والقيم والسلوكيات التي مهدت لهذا النصر، والتي حققته ودعمته، والتي حافظت عليه ، والتي يجب عودتها والتمسك بها كي يتكرر النصر بنفس القدر من العظمة في كل مجالات حياتنا، ولكي نحقق لمصرنا الغالية ما نصبو إليه، وما نريده لها.
إننا نحاول أن نتأمل تربويات نصر أكتوبر، لعلنا نرصد ما كان سبباً في تحقيق النصر، وما سيكون سبباً في تحقيق انتصارات أخرى في مجالات عدة.
إن استماعنا إلى أحاديث القادة السياسيين والعسكريين قبل وأثناء المعركة يؤكد لنا أن السائد وقتها وبعدها كان دائماً شعاره : مصر أولاً … مصلحة الوطن قبل أي شيء، وبعده.
ولعلنا بحاجة – الآن ، وأكثر من أي وقت مضى – إلى وعى مجتمعي، وحسن تقدير للأشخاص وللمواقف، وللآراء والقرارات، وإلى احترام الآخرين: ذواتهم، وتوجهاتهم، وآرائهم، والى تغليب مصلحة الوطن على أي مصلحة خاصة لأي مؤسسة أو كيان.
إننا بحاجة إلى إظهار ما تربينا عليه من خلق حسن، وما غرسته فينا عقائدنا من قيم موجبة، وما عهد ناه في مجتمعاتنا من محبة وإخاء وتسامح .
لذا أنادى بأن تكون معركتنا – الآن، ولاحقا – تحت شعار التربية الداعمة لحب الوطن أولاً.
إن الحافز الأكبر لصدور قرار حرب أكتوبر في العام 1973 كان الرغبة في استرداد الكرامة بعد خذلان هزيمة يونيه 1967 ؛ لذا أعتقد أننا وأبناءنا وتلاميذنا أحوج ما نكون الآن إلى التأكيد على احترام الكرامة ، وتقدير الشخصية.
يجب أن يؤكد الآباء على اعتزازهم بكرامة أبنائهم، ويراعى المعلمون كرامة تلاميذهم، مع توجيه الأبناء المتعلمين إلى الافتخار بهويتهم المصرية (ارفع رأسك… أنت مصري)، واحترام القيم الإنسانية، والالتزام بتطبيق مفهوم المواطنة في كل الممارسات المدرسية والمجتمعية.
يجب أن نمنح الفرصة للأبناء والمتعلمين للتعبير عن ولائهم وانتمائهم لعائلاتهم، وقبائلهم، ومدارسهم، وبلدهم الأصغر، ووطنهم الأكبر (مصر)، ويجب على الكبار في الأسرة و المدرسة والمجتمع تقدير نتائج أعمال الأبناء والتلاميذ، وأعمال غيرهم من كل فئات المجتمع .
لقد أكد نصر أكتوبر قيمة العمل الجماعي، وأصبح لزاماً على الأسرة والمدرسة إعلاء شأن هذه القيمة، وتقديرها، وتدريب الناشئة عليها.
صحيح أن هناك بطولات فردية في حرب أكتوبر سمعنا، وقرأنا عنها ، والتاريخ سجلها لأصحابها بحروف من نور، وتم تخليد أسمائهم بصور مختلفة، لكن هذه البطولة الفردية ما كان لها أن تحدث لولا وجود عمل تعاوني: لوجستي، عسكري ، ومجتمعي.
علينا أن نستلهم من البطولات العسكرية التوجه إلى العمل التعاوني (الفريقي)، والإيمان بأهمية التعاون مع الآخرين، وامتلاك المهارات اللازمة للقيادة الرشيدة، والالتزام بأداء الدور المنوط بكل فرد وسط مجموعة، توزع بينها العمل، والمسئوليات .
ومن يدرس السمات الشخصية لقادة أكتوبر، ولنماذج من جنودنا الأبطال الذين حققوا نصر أكتوبر يدرك أنه يجب أن ندعم في أبنائنا وطلابنا التنافس الذاتي (تحدي الذات)، والتنافس بين المجموعات.
إن ذلك لن يتأتى إلا باشتراك الفرد في الأعمال والمشروعات المجتمعية.
إن تقدير العمل الجماعي يعلي في الفرد القيم الخلقية لا القيم الرجعية، وذلك عندما يتطوع الإنسان لإنجاز أعمال خدمة لمدرسته أو شارعه أو بلده أو وطنه.
إن نصر أكتوبر وجهنا أن نؤمن كمربين كبار بذكاءات أبنائنا وقدراتهم؛ فهم قادرون على تحمل مسئولية حل ما يقابلهم من مشكلات، وهم إيجابيون يسهمون في حل مشكلات المدرسة أو الكلية أو المجتمع المحلي .
إن هذا التوجه – المستمد من ذكريات نصر أكتوبر– يتطلب أن نربي في أبنائنا مهارات النقد الموضوعي، وإبداء الرأي، ونحترم تنوعهم في ذلك كمصدر لإثراء أفكارهم.
من المهم للمتعلم أن يدير ذاته وحياته بكفاءة، فيقرر عواقب تصرفاته، ويحترم قدراته وقدرات غيره . إن ذلك يجعله يوظف هذه القدرات في تقديم كل جديد ومبدع.
إن نصر أكتوبر ما كان ليتحقق لولا أن تسلح جيشنا العظيم بالإيمان بالله ، وكان شعاره (الله أكبر)، وتسلح أيضاً بالعلم وقوته (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة).
إن من المهم – الآن – استخدام الأجيال الصاعدة لآليات عصر العلم، وذلك بالتفكير العلمي في حل ما يصادفهم من مشكلات.
يجب أن نعود أبناءنا على الالتزام بأخلاقيات التعامل مع العالم الرقمي، واحترام الملكية الفكرية. من المتوقع أن الأجيال الحالية سيفكرون عالمياً، ويطبقون مجتمعياً.
ولضمان أن يكون لدى الأبناء الثقة في الكبار سواء في الأسرة أو المدرسة أو الجامعة أو المجتمع ككل؛ يجب أن ندربهم، ونساعدهم على حسن انتقاء المعلومات والبيانات من مصادرها الصحيحة.
إن التربية القائمة على مكتسبات نصر أكتوبر العظيم يجب أن تؤكد على مراعاة العدالة الاجتماعية، وإعلاء قيمة العمل؛ فهو حق وشرف وحياة ، وتوزيع الأعمال وفقا للقدرات، ونشر ثقافة التكافل الاجتماعي.
لقد كان نصر أكتوبر – في حد ذاته – إبداعاً من جيشنا العظيم، ومن خلفه شعبنا الأعظم، وهو ما يوجهنا في الأسرة، والمدرسة، والجامعة إلى تقدير إنتاجات وإبداعات أبنائنا وتلاميذنا، والحكم عليها وتقويمها وفقاً لإنجازاتهم هم، وليس بمقارنتهم بآخرين.
إن التعامل مع الأبناء، وبينهم وبين أقرانهم يجب أن يكون على أساس القيم الإنسانية، وفي مقدمتها قيمة العدالة، وأداء الواجب، وإعطاء الحق لكل ذي حق.
إن المعادلة الصعبة التي استطاع جيشنا العظيم أن يحلها، وكانت سبباً في نصر أكتوبر العظيم هي الجمع في تربية الجنود، وفي تدريبهم وتوجيههم بين الالتزام، والطاعة، وتنفيذ الأوامر من ناحية، والمرونة، والحرية ، والحث على الإبداع من ناحية أخرى. من المهم احترام حرية الأبناء والمتعلمين، وتأكيد الديمقراطية في التعامل معهم داخل الأسرة وفي المدرسة، وفي المجتمع.
على أبنائنا أن يفهموا معنى حق الاختلاف في الرأي، وعلينا أن نسمح لهم بحرية التفكير، وحرية التعبير.
وفي داخل الفصل أو المدرسة ، وفي ديوان العائلة، أو مع الأسرة يجب أن يحرص الكبار على تطبيق آداب الحوار والنقاش حيث تتاح الفرصة لكل فرد لإبداء رأيه بحرية وموضوعية مع احترام رأي الآخر ، وتوجهاته وثقافته.
إن ذلك ضمان لأن يميز الفرد بين الحرية الخلاقة المبدعة، والفوضى الهدامة المخربة.
ومن دلائل الحث على التفكير والإبداع في حرب أكتوبر قبول فكرة تفتيت خط بارليف بضح المياه، وحماية العابرين من اندلاع النابالم الحارق أثناء العبور بفكرة استخدام اللهجة النوبية في إصدار وتلقي الأوامر بسلاح الإشارة.
أفكار بسيطة، ولكنها إبداعية، وتفكير خارج الصندوق؛ حقق عنصري المفاجأة والغموض في الهجوم من ناحية قواتنا المسلحة، وبالتالي عدم القدرة على الدفاع، والاستسلام للهزيمة من قبل جيش العدو.
أعتقد أن تربويات نصر أكتوبر – وهي كثيرة ، وما تم تناوله لا يمثل إلا نماذج لها – تؤكد على أن التربية السليمة هي الضمانة الحقيقية، وأن التربية المستمدة من روح النصر، وممارسات المنتصر تضمن لنا إنجازات نفتخر بها في الحاضر، ونضمن بها المستقبل الأفضل، وكل ذكرى لنصر أكتوبر، وجيشنا، ومصرنا في تقدم وازدهار.