عبد الحليم قنديل يكتب…
القنبلة الإيرانية
لم تكن من مفاجأة كبرى فى عملية اغتيال العالم الإيرانى محسن فخرى زادة ، فليست الأولى من نوعها ، وسبقتها عمليات اغتيال لأربعة علماء نوويين ، وفى قلب إيران نفسها ، وبمسئولية مرجحة لإسرائيل وجهاز مخابراتها “الموساد” ، وفى عز رئاسة باراك أوباما ، الذى عقد الاتفاق النووى مع طهران عام 2015 ، ثم ألغاه الرئيس الأمريكى اللاحق دونالد ترامب فى مايو 2018 ، وأدار حملة الضغوط القصوى لتركيع النظام الإيرانى، وأمر بعملية اغتيال القائد البارز قاسم سليمانى أوائل 2020 ، وكان أمله أن تأتى إيران إليه طائعة ، وتوافق على شروطه لعقد اتفاق جديد ، لكن الرياح أتت إلى ترامب بما لا تشتهى سفنه ، وهزم فى انتخابات الرئاسة الأخيرة ، وفاز غريمه جوبايدن ، الذى يبدو أكثر استعدادا لمد اليد إلى إيران ، وتجديد اتفاق أوباما النووى المخفف مع التعديل الجزئى .
ويبدو مرحجا ، أن ترامب الذى يظل فى كرسى الرئاسة حتى 20 يناير 2021 ، والمدفوع بغرائز الانتقام ، قد أعطى الضوء الأخضر لإسرائيل لتنفيذ عملية اغتيال زاده ، فى طريق على مشارف طهران ، وفى ظهر يوم الجمعة 27 نوفمبر 2020 ، وبتفجير جرت إدارته تكنولوجيا ، فلم يظهر على مسرح الاغتيال مسلحون ، كما تقول جهات التحقيق الإيرانية ، وكل ما ظهر شاحنة “بيك آب” صغيرة زرقاء ، جرى تركيب رشاش آلى عليها ، انسابت طلقاته القاتلة ، بجهاز تحكم يعمل عن بعد ، وعلى بعد خطوات من سيارة فخرى زادة ، وعند دوران طريق ، اجتمع جحيم الطلقات مع تفجير “البيك آب” نفسها ، وقتل الرجل على الفور ، وقبل أن تصله النجدة عبر طائرة إنقاذ هليكوبتر ، وكان واضحا أن تحركات فخرى مرصودة جيدا ، فقد تعود على الخروج من طهران كل جمعة ، وبهدف زيارة أصهاره فى مدينة “آبسارد” الشهيرة ببساتين الكرز والتفاح ، ويبدو أنها لم تكن المحاولة الأولى لتصفية الرجل ، فهو هدف قديم لجهاز “الموساد” ، ربما منذ نحو عشرين سنة ، فقد كان مسئولا عن تطوير البنية التحتية لبرنامج إيران النووى منذ عام 2003 ، وإلى أن صار رئيسا لمركز الأبحاث والتكنولوجيا بوزارة الدفاع الإيرانية ، وقد عبر الإسرائيليون عن فرحتهم الغامرة باختفائه ، وشارك ترامب بنفسه فى مهرجان الشماتة ، وأعاد نشر تغريدة لصحيفة “نيويورك تايمز” ، ترجح مسئولية إسرائيل عن اغتيال زادة ، كما أعاد نشر تغريدة بالعبرية لصحفى إسرائيلى ، تصف الاغتيال بأنه “ضربة نفسية ومهنية كبيرة لإيران”، وهو ما بدا كإعلان رسمى لترامب عن مسئوليته المباشرة فى منح الضوء الأخضر للعملية الإسرائيلية ، التى يبدو أنها لن تكون الأخيرة فى الأسابيع المتبقية على نهاية رئاسة ترامب، الذى يريد ترك الأرض محروقة تحت أقدام خلفه جو بايدن ، وكسب دفعة سياسة تلزمه للإعلان عن إعادة ترشيح نفسه فى انتخابات 2024 ، ولم يكن فيما فعلته إسرائيل بموافقة ترامب مفاجأة من أى نوع ، ففى 3 أكتوبر 2020 ، وقبل شهر كامل من موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية ، نشرت مقالا هنا بعنوان “حروب ترامب الأخيرة” ، قلت فيه بالنص والحرف أن ترامب قد يندفع “إلى تجريب حظه فى صحراء الربع الخالى ، أى فى المنطقة العربية وجوارها الإيرانى بالذات” ، وأضفت وقتها “أن ترامب يريد نصرا عسكريا بأقل تكلفة ( . . ) بعد أن بهتت ذكريات عملية اغتيال القائد الإيرانى قاسم سليمانى فى بداية العام الجارى ، وقد يفعلها ترامب مجددا ، وعلى طريقة شمشون” ، وقد نزيد اليوم ، أنه لن يكون مفاجئا لأحد، أن تتكررعمليات اغتيال قادة المحور الإيرانى ، وعلى جغرافيا ممتدة من طهران إلى بيروت.
وكان طبيعيا أن تنشغل أغلب التحليلات بالرد الإيرانى المتوقع عقب اغتيال فخرى زادة، خاصة بعد إعلان إيران عن ما أسمته “ردا مزلزلا صاعقا” ، وإن بدا الخلاف ظاهرا على سطح السياسة الإيرانية ، وتوزع بين وجهتى نظر ، إحداهما تريد ردا سريعا يقتص من إسرائيل ، والأخرى من حول الرئيس حسن روحانى ، تريد تأجيل الرد إلى الوقت المناسب ، خشية أن يأتى الرد المتعجل بعواقب سلبية ، تعرقل احتمالات التفاهم مع الرئيس الأمريكى المنتخب جوبايدن ، وإعاقة فرص تخفيف أو إلغاء عقوبات الضغط الأقصى الأمريكية ، وما قد يضاف إليها فى أيام ترامب الأخيرة بالبيت الأبيض ، وهى العقوبات التى أنهكت الاقتصاد الإيرانى ، ونزلت بصادراته البترولية إلى عشرة بالمئة مما كانت عليه ، فلم تعد إيران قادرة على تصدير سوى 250 ألف برميل يوميا فى أفضل الأحوال ، وبما جعل الاقتصاد الإيرانى فى نوبة اختناق ، يخشى من توابعها السياسية على بقاء النظام الإيرانى نفسه ، وهو ما جعل المتشددين ـ مع المعتدلين ـ يفضلون عدم الرد الفورى ، أو ربما عدم الرد من أصله ، بحسب ما تسرب عن لقاءات سرية لإسماعيل قاآنى خليفة قاسم سليمانى فى قيادة “فيلق القدس” التابع للحرس الثورى ، دعا فيها حلفاء إيران فى العراق وسوريا ولبنان إلى هدوء الأعصاب، فأى رد عاجل يسقط فيه أمريكيون أو إسرائيليون، قد يوفر الفرصة المواتية لترامب ، الذى حرك قاذفات “بى ـ 52” قرب إيران ، وعرضت عليه خطط قصف ساحق لمنشآت إيران النووية .
وما من شك فيما نظن أن إيران صارت على مفترق طرق ، قد لا تفيد معه كثيرا سياسة “الصبر الاستراتيجى” المعتادة ، فقد كشفت الضربات المتلاحقة عن هشاشة ظاهرة فى البنية الأمنية الداخلية ، صحيح أن طهران لديها شبكة عملاء واسعة فى المنطقة وخارجها ، وقد يكون بوسعها أن تدير عمليات اغتيال تؤذى خصومها، لكن ثقة جمهور النظام تتآكل فى الداخل ، وتدفع النظام نفسه إلى منح فرص أكبر للمتشددين فى صفوفه ، وبهدف تغليظ قمع التمردات الداخلية المحتملة ، وهو ما يبدو مرجحا فى انتخابات الرئاسة الإيرانية المقررة فى يونيو 2021 ، وقتها تكون رئاسة روحانى المعتدل نسبيا ، قد انتهت بفترتيها ، ومن دون توقع قدرة بايدن فى شهوره الأولى على تجديد التفاهم النووى مع إيران ، وهو ما يعطى مزيدا من الفرص لفوز مرشح أصولى متشدد ، أقرب بطبائع الأدوار إلى طريقة تفكير المرشد الإيرانى على خامنئى ، وقد جرى شئ من ذلك عقب اغتيال فخرى زادة ، وقرر البرلمان ، الذى يسيطر عليه الأصوليون المتشددون، الموافقة على رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى عشرين بالمئة، وباستخدام أجيال أحدث من أجهزة الطرد المركزى، وهو ما يعد خروجا خشنا على التزامات طهران فى الاتفاق النووى ، الذى ما تزال روسيا والصين وألمانيا وفرنسا وبريطانيا تلتزم به ، وتدعم واشنطن لإعادة التزامها الملغى ، فالاتفاق لا يسمح لإيران سوى بنسبة تخصيب لا تجاوز 3.67% ، وبكميات محدودة ، تجاوزتها إيران بكثير خلال العامين الأخيرين ، وصار لديها حجم من اليورانيون المخصب ، يزيد 12 ضعفا على حجم سقف الاتفاق ، وبنسب تخصيب أعلى بعدة مرات مما كان متفقا عليه ، وهو ما أغرى المتشددين بالخطو أبعد فى الاتجاه المعاكس لرغبات روحانى المعلنة ، وإقرار قانون جديد من البرلمان ، يفتح الطريق لخروج كامل من البروتوكول الإضافى لمعاهدة منع الانتشار النووى ، والالتفاف داخليا حول خيار البرنامج النووى الشامل ، وهو موضع افتخار وطنى لدى الإيرانيين عموما ، قد يفيد تطويره فى معادلة أثر الضغوط الشعبية على النظام ، بسبب تفشى الفقر وضيق المعايش ، وإلى وقت يسمح بالتحول إلى سياسات دولية أخرى ، قد يرد فيها تحول إلى قبول العرض الصينى باستثمارات تبلغ 400 مليار دولار فى 25 سنة مقبلة ، وتقرر فيه إيران دفع برنامجها النووى إلى آفاق عسكرية، والتقدم إلى مضاعفة مستويات التخصيب ، وإلى الحد اللازم لصناعة “الكعكة الصفراء” ، وامتلاك قنبلة ذرية إيرانية ، تجعل غزو إيران وإسقاط نظامها مستحيلا ، وقد صار ذلك كله احتمالا متزايدا ، لا يعيقه اغتيال محسن فخرى زادة ، الذى يوصف بأنه “أبو القنبلة النووية الإيرانية” ، واغتياله لن يبطئ الخطى النووية ، “فلم يعد هناك من فرد حاسم” فى البرنامج الإيرانى المتطور ، والتعبير لبروس ريدل الخبير الأمريكى المرموق ، نشرته مجلة “نيويوركر” عقب اغتيال فخرى زادة ، فقد امتلكت إيران قاعدة علمية هائلة ، يمكنها التعويض عن فقد عالم بذاته ، وقد صارت إيران من سنوات على حافة العتبة النووية ، ولن يثنيها ما يقال عن فتوى المرشد بتحريم صناعة القنبلة الذرية ، فبوسع المرشد أن يغير الفتوى ، وعلى قاعدة الضرورات التى تبيح المحظورات ، وقد فعلها الخمينى قبل خامنئى ، فالنظام الإيرانى اليوم عند لحظة خطر حاسم ، وقد لا يجد مخرجا سوى بالقفز إلى الأمام ، وطلب التأمين الشامل بحيازة السلاح الذرى .