احفاد هكتور، الحلقة 10 محمد مسعود محمد
احفاد هكتور، الحلقة 10
محمد مسعود محمد:
هذه الخريطة تبين مراحل توسع مملكة الفرانكس وكيفية تقسيمها بين احفاد كلوفيس، حيث استمر ورثته على نفس المنهاج السياسي في قهر واخضاع القبائل البربرية. كانت البداية مع أراضي فرنسا الحالية التي فرضوا سلطتهم عليها ماعدى اقليم بريتني في اقصى شمال الغرب. هؤلاء كانوا شعبا من بقايا البريتون (Britons) وهم سكان بريطانيا القدماء الذين هربوا من وجه الغزاة الأنكلو-السكسون وانعزلوا في تلك الزاوية من فرنسا. وعلى الرغم من اعترافهم اسميا بسيادة ملوك الفرانكس عليهم الا انه قدر لهم ان يكونوا من اواخر الاقاليم التي اندمجت fالثقافة الناشئة في فرنسا واخر من انقلب الى المسيحية ايضا، ذلك بسبب تركيز الفرنكيين على اخضاع باقي الجرمان دون غيرهم.
بعد فرنسا استدار كلوفيس وورثته شرقا بحملات شبه دائمية حتى اصبحت تلك الدولة وكأن لا شغل لها ولا شاغل سوى قهر واخضاع الجرمان. فتوسعوا بذلك الأتجاه لدرجة ان تلك المملكة اصبحت باكثرية اراضيها ورعاياها من الجرمان. حتى انهم امتلكوا ما يشبه العواصم هناك، مدن ماينز وآخن مثلا. لكن ولا واحدة من مدن جرمانيا حملت طابع العاصمة كما فعلت باريس، بل بدت وكأنها قلاع للأحتماء ومقرات لأنطلاق الحملات العسكرية. سنرى لاحقا ان قصة (المانيا والقلاع) قصة طويلة وكان لها اثر عميق، اثر مدمر.
لكن كيف كانت طبيعة مملكة الفرانكس وهي اول دولة اوروبية بعد الرومان، وما كانت مميزاتهم او نواقصهم؟
في الواقع ان كلوفيس كان اول من وضع شريعة لدولته وسميت (شريعة الساليين – The Salian Code) نسبة الى اسم عشيرته. بعدها بقرون عندما ظهرت اسر جرمانية متنفذة نسمع ان معظمهم يقلدون الميروفنج ويضعون شرائع لدويلاتهم. هذا وقد حث كلوفيس على ترسيخ اسس الاستقرار في الدولة وساير مستشاريه من الكالو-رومان في توجهاتهم الحضارية وخبراتهم الاقتصادية.
هذا من جهة، لكن من الجهة الاخرى حمل الميروفنج في طياتهم بذورا قبلية ضلت متجذرة فيهم (هل يمكن ان تكون للجينات تأثير؟). لا اعلم لكن تلك الحقيقة اتضحت من تصرفات ورثة كلوفيس عند ما شرعوا بتقسيم المملكة بينهم حتى اصبحت 4 اقسام كما نراه في هذه الخريطة.
قد تبدو عملية تقسيم الميراث امرا جانبيا في نظر البعض، لكن بالنسبة لي يمثل مؤشر مهم وخطير يفرق بين الدول الرصينة عن الدول القبلية. ولنا ان نقارن بينهم وبين دول أخرى تحت مجهر معين. مثلا، نحن في الشرق الاوسط كان عندنا اربعة دول سادت على المنطقة بعد الموجة المغولية، ويمكن تصنيف تلك الدول الاربعة في مجموعتين:
اولا: مجموعة الدول المعمرة والقوية وهما الدولة العثمانية والدولة الصفوية.
ثانيا: مجموعة الدول التركمانية قصيرة العمر وهما دولة آق قوينلو وقرة قوينلو.
لننسى قليلا مذاهب تلك الدول ومواقف بعضها من بعض لنركز فقط على نوعية توريث العروش في تلك الدول، سنرى ان الصفويين والعثمانيين اشتركوا في رصانة عملية التوريث (التوريث لولي عهد واحد فقط). اي ان دول الصفويين من جهة والعثمانيين من جهة اخرى لم تكن قابلة للتقسيم.
اما في الدولتين التركمانيتين سنلاحظ ظاهرة تقسيم الدولة على الأولاد الذكور وكأن الدولة مجرد ارث عائلي يقسمه (القسام الشرعي للمحكمة!!).
وعليه فعند موت قره يوسف (1356– 1420) مؤسس امبراطورية القرة قوينلو (بمعنى يوسف الاسود)، تولى كلا من اولاده جزء من المملكة ثم بدات النزاعات بينهم فانحلت تلك الامبراطورية بسرعة. فقام عليهم عشيرة آق قوينلو بقيادة اوزون حسن (1423- 1478) وانتزع معظم املاكمهم خلال فترة قصيرة وسادت (امبراطوريته على الشرق الاوسط لعدة عقود، لكن ورثته كرروا نفس الخطاء وتقاسموا تلك الأمبراطورية بعد موت اوزون حسن (بمعنى حسن الطويل) فجرى عليهم نفس ما جرى على القره قوينلو حتى مل الناس منهم والتفوا حول المشيخة الصفوية الذين استولوا على املاك الدولتين معا وتحولوا الى شاهات لدولة مستقرة ومتجذرة العروق. فهل وصلت الفكرة؟ اما العثمانيين مثلا فهم الأقوى في المسائل الوحدوية وفي صيانة الدولة، وياما سمعنا بذبح اولاد السلاطين لمجرد الشك في انهم قد يشقوق وحدة الدولة. وريث واحد فقط، لذلك احد الاسر الملكية الاطول عمرا في التاريخ الحديث.
من هذا المنطلق نرى ان نفس الأمر كان قد تكرر قبلا مع اسرة الميروفنج الذين قسموا امبراطوريتهم بين الاولاد والورثة المتعددين. وهذا كان له تاثير على تشكيل اوروبا لاحقا. فاهم مملكتين فرنكيتين كانتا:
اولا، مملكة نوستريا (بمعنى New West = الغرب الجديد) وعاصمتهما باريس. تحولت لاحقا لفرنسا الحالية.
ثانيا، مملكة اوستراسيا او (المملكة الشرقية) وفي بعض المراحل اطلق اسم فرانكونيا على ذلك القسم. عاصمتها كانت مدينة مايتز وقد تحولت تدريجيا الى اصل القسم الجرماني من اوروبا.
ومن الجدير بالاشارة انه خلال الاجتياح الجرماني للأمبراطورية الروماني وحتى خلال عهد كلوفيس واولاده فان التدفق الجرماني عبر نهر الراين استمر بشكل تغلغل ابطئ من التدفق الاول لكن المهم انه استمر مما انتج ازاحة شعب الكللو-روم (اجداد الفرنسيين) من الضفة الغربية من الراين. مع ذلك بقيت الذاكرة الفرنسية اعتبر الراين حدوها الاقدم. هذا الموضوع اثارا حروبا كبرى كما سنرى، لكن لا داعي للعجلة.
في نهاية المقال اود التنويه الى ان الدول المتعددة لأحفاد كلوفيس بقيت قوية تسيطر على وسط القارة، لكن سلطة هؤلاء الملوك بدأت تضعف وتتلاشى عبر القرون حتى خسرت اسرة الميروفينج الملك لأسرة اخرى. هؤلاء كانوا اشهر اسرة مالكة اوروبية في العصور الوسطى (اسرة الكارولنج) الذين اعادوا الوحدة لتلك الدولة المفككة وكانوا بطبائع وحدوية اكثر من الميروفنج. ثم ان عملية استيلائهم على العرش (او العروش المتعددة) للملكة الفرنكيين لها قصة مهمة وشيقة كما سنرى في الحلقة التالية.