أوكرانيا وفجوة الثقة الأوروبية – الأمريكية

د. محمد السعيد إدريس
دمت «الترامبية السياسية»، إذا أُجيز استخدام هذا المصطلح، نموذجاً جديداً، وربما غريباً، في العلاقات الأوروبية – الأمريكية، حتى منذ الولاية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. في تلك الولاية فرض ترامب نهجاً تمييزياً في العلاقة بين الولايات المتحدة والحلفاء الأوروبيين، عندما ازدرى في أحاديثه الدول الأوروبية الكبرى التي أسست حلف شمال الأطلسي مع الولايات المتحدة عام 1949، لمواجهة الاتحاد السوفييتي و«الخطر الشيوعي»، وتعامل مع دول شرق ووسط أوروبا، التي انضمت حديثاً إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي، عقب سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو بأفضلية غير مسبوقة، وتحدث باستعلاء عن الحلف، واعتبره «عبئاً» على الأمن الأمريكي، وهدد بانسحاب الولايات المتحدة منه. أما في الولاية الثانية، فإن «الفجوة» اتسعت وأحدثت «شرخاًَ عميقاً» في جدار الثقة بين الطرفين.
فقد رفع ترامب شعار «أمريكا أولًا» في حملته الانتخابية الرئاسية الثانية، ووعد، عقب فوزه، بجعل «أمريكا عظيمة مرة أخرى»، وكان هذا يعنى مبكراً، أن ترامب لن يضع المصالح الأوروبية في حساباته لو تعارضت مع المصالح الأمريكية.
وتمادى ترامب في هذا التوجه عندما دعا إلى ضم جزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك، العضو الأساسي في الاتحاد الأوروبي وفي حلف شمال الأطلسي، لكن «فجوة انعدام الثقة» تضاعفت وتفاقمت عقب تطورين أمريكيين مهمين، أولهما: خطة ترامب لتحقيق السلام في أوكرانيا، وثانيهما: طرح ترامب نص «استراتيجية الأمن القومي الأمريكي» الجديدة.
فقد اتهم الحلفاء الأوروبيون الولايات المتحدة، بسبب هذه الخطة، بالانحياز إلى روسيا على حساب أوكرانيا، ومجمل الدول الأوروبية، لدرجة أن البعض وصفها بأنها «خطة روسية بعنوان أمريكي»، فهي أقرت بتنازل أوكرانيا عن أجزاء من أراضيها لروسيا، وأكدت عدم انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي «حسب الطلب الروسي»، وإن كانت عوضتها بضمانات أمنية أمريكية، لكن كان واضحاً من نصوص هذه الخطة أن الولايات المتحدة شاءت أن تجعل نفسها وسيطاً بين روسيا من ناحية، وأوكرانيا وأوروبا من ناحية أخرى، وليست طرفاً في التحالف الغربي ضد روسيا.
تأكد هذا من بندين من بنود الخطة، أولهما، البند الذي ينص على: «التوصل إلى اتفاق عدم اعتداء شامل بين روسيا وأوكرانيا وأوروبا، يغلق جميع الخلافات السابقة منذ 30 عاماً». وثانيهما، البند الذي ينص على: «إطلاق حوار بين روسيا والناتو بوساطة أمريكية لحل القضايا الأمنية، وخفض التصعيد وتعزيز التعاون الاقتصادي». هذا النص الأخير يكشف عن إدراك أمريكي جديد نحو حلف شمال الأطلسي، كأن الولايات المتحدة لم تعد عضواً في الحلف، بل هي مجرد وسيط.
وجاءت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، التي أصدرتها إدارة ترامب مؤخراً، لتفاقم من اتساع «فجوة انعدام الثقة» الأوروبية نحو الولايات المتحدة.
فقد وضعت هذه الاستراتيجية أوروبا «أولوية ثالثة» أو رابعة «بالنسبة للأمن القومي الأمريكي»، بعد أمريكا اللاتينية وآسيا، وربما قبل أو بعد الشرق الأوسط، في حين لم يذكر، حتى ولو مرة واحدة روسيا كعدو، ما دفع البعض إلى التساؤل: لماذا سيبقى حلف شمال الأطلسى؟.. وضد من ستكون المظلة النووية الأمريكية الموجودة في أوروبا؟.. وهل هذا يعني أن الانسحاب الأمريكي من الحلف أضحى «مسألة وقت»؟
في هذه الاستراتيجية استخدمت واشنطن لغة غير مألوفة في مخاطبة حلفائها المقربين، عندما نصت على أن «الإدارة الأمريكية ستعمل على تنمية المقاومة لمسار أوروبا الراهن من داخل البلدان الأوربية نفسها». وجاء الرد الألماني سريعاً، إذ شددت برلين على أنها «ليست بحاجة إلى من يعطيها دروساً من الخارج».
الحديث الذي أجراه الرئيس ترامب مع مجلة «بوليتيكو» (9/12/2025) بعد خمسة أيام فقط من نشر تلك الاستراتيجية، جاء ليصب المزيد من الزيت على النار التي أخذت تلتهم الثقة بين الأوروبيين والولايات المتحدة، عندما وصف أوروبا بأنها «مجموعة دول متداعية يقودها أشخاص ضعفاء». وزاد «أظنهم لا يعرفون ماذا يفعلون، أوروبا لا تعرف ماذا تفعل».
حديث ترامب هذا جاء في وقت شديد الحرج تحفظت فيه الدول الأوروبية على خطة ترامب، أو بالأحرى رفضتها، وعدلتها بخطة أخرى بديلة حرصت على تأكيد سيادة أوكرانيا، وربط الأمن الأوروبى بمستقبل الأمن في أوكرانيا. وانتقد انطونيو كوستا رئيس المجلس الأوروبي «استراتيجية الأمن الأمريكية، وحث البيت الأبيض على احترام سيادة أوروبا، وحقها في تقرير مصيرها».
لكن التعبير الأشد وضوحاً عن الضيق الأوروبي من التوجهات الأمريكية الجديدة للرئيس ترامب وإدارته، هو ما وصفت به وكالة الاستخبارات الدنماركية، للمرة الأولى الولايات المتحدة بأنها «خطر محتمل» على أمن الدول الأوروبية.
عندما تصل المخاوف إلى هذا الحد، فإنها تعني أن أوروبا لم تعد متشككة فقط في جدوى استمرارية العلاقة التحالفية مع الولايات المتحدة، بل إنها ستجد نفسها مدفوعة بالبحث عن «البديل الأمني الأوروبي المستقل»، وربما مراجعة علاقاتها الصراعية مع روسيا، وهذا يعني أن أوروبا باتت أمام قرار أمني مصيري، ونهج استقلالية أوروبية، بعيداً عن الولايات المتحدة.



