الثعبان في الحضارات القديمة.. رمزية مزدوجة بين اللعنة والحماية المقدسة

أميرة جادو
اتخذت الثعابين في الحضارات القديمة رمزية مزدوجة تجمع بين الحماية والشر، والشفاء والخصوبة، والتجدد والخلود، فقد كانت الأفعى في مصر القديمة بمثابة إلهة حامية تعرف باسم وادجيت، وتظهر على تيجان الفراعنة، بينما ارتبطت في الحضارة اليونانية بالشفاء والحكمة كما يتجلى في عصا أسكليبيوس، وفي حضارات المشرق القديم كانت حارسة للمعابد ودليلاً على الخلود، وهو ما يكشف عن العلاقة العميقة التي ربطتها القوى القديمة بين الثعبان وبين مفاهيم الحياة والموت.
الثعبان في الحضارات القديمة
أما لدى الإنسان القديم، فقد حملت الأفعى رموزاً متعددة؛ إما بسبب الخوف من خطرها، على غرار الشعوب البدائية التي قدست المخلوقات المخيفة اتقاءً لشرها، أو نتيجة الاعتقاد بأنها تتقمص أرواح الموتى والشياطين، ولذلك قدسوا الثعابين السامة والتماسيح والعقارب، إلا أنهم لم يؤلهوا جميع أنواع الثعابين، بل خصوا الكوبرا أو الصل بالتقديس.
مصر القديمة
لم يكن الثعبان في مصر القديمة مجرد كائن يثير الرهبة، بل كان رمزًا محوريًا في المعتقدات، يتأرجح بين الحماية والخطر، وبين الحكمة والقوة.
وعلى مدار آلاف السنين احتل الثعبان مكانة سياسية وروحية بارزة، حتى صار جزءًا أصيلًا من الهوية البصرية للحضارة المصرية.
ارتبط الثعبان ارتباطًا وثيقًا بعقيدة الشمس، خاصة في صورة بودجيت، الكوبرا المقدسة التي اعتلت تيجان الملوك. ولم يظهر هذا الرمز على مقدمة التاج للزينة فقط، بل كإعلان رسمي بأن الملك تحت حماية الإلهة بودجيت وأن سلطته ترتكز على قوة إلهية عليا.
كما مثلت الكوبرا كذلك قدرة جبارة على الردع، فهي تطلق النار على أعداء الملك وتحميه في الدنيا والآخرة، ولهذا ظهرت في النقوش والمعابد والأعمدة وكأنها العين التي لا تنام، تراقب وتحرس البلاد من أي تهديد.
الثعبان في الحضارة الإغريقية
لعب الثعبان في الحضارة الإغريقية أدواراً متعددة، وكانت أبرز صوره تلك المرتبطة بشعر ميدوزا الذي تتدلى منه ثعابين سامة، وقد نسجت حولها الأساطير، كما اتخذ الثعبان مكانة جنائزية، حيث نقش على شواهد القبور لطرد الشر وحماية المقبرة.
وبذلك يشترك الثعبان في الحضارتين المصرية والإغريقية كرمز للحماية الدنيوية والأخروية، إذ كان عند المصريين أحد الآلهة الحامية للمتوفى، وكذلك عند الإغريق رمزاً لحماية المقابر، ولا عجب أن يصور الثعبان أحيانًا ممثلًا للإله حورس – حربوقراط، وأحياناً للإلهة إيزيس، وأحياناً أخرى يصور كلاهما معاً، لكونهما أكثر الآلهة ظهوراً على الآثار الجنائزية في مصر.
الحضارة الهندية
كما تروي الأساطير الهندية حكايات عن أفعى تتزين بتاج من المجوهرات، وهو كنز ثمين لا يمكن أن يستولي عليه إلا مغامر قوي.
وفي الهند وماليزيا وإندونيسيا تنتشر الروايات التي تؤكد امتلاك الأفاعي لحجر سحري يضيء طريقها، وله خصائص خارقة؛ فهو يقتل كل من يحاول لمسه قسراً، بينما إذا وضع — بعد تلاوة تعاويذ معينة — فوق شخص نهشته الأفعى، فإنه يمتص السم من جسده.
ويرى أهل تلك الحضارات أن الحصول على هذا الحجر يتطلب الاستعداد الجيد والسيطرة على الأفعى وهزها بعنف لاستخراجه منها.
وكما كانت الأفعى تحرس الإنسان وممتلكاته، فقد كانت أيضاً تدافع عن قيم الجماعة، وتطارد الخارجين عن القانون، الذين ينظر إليهم باعتبارهم ممثلين للدنس والشر، مما يجعلها رمزاً للحماية ومطاردة القوى السلبية.
الثعبان في الحضارة البابلية
في الحضارات البابلية، سواء السومرية أو الأكادية، احتل الثعبان مكانة رمزية مزدوجة تجمع بين الحماية والشر. فقد ارتبط بالشفاء والخصوبة عبر إله مثل نينجيشزيدا المرتبط بالعصا المتوجة بالأفعى، كما دل على الخلود بسبب قدرة الثعبان على تغيير جلده.
وفي الوقت نفسه مثل الثعبان رمزاً للفوضى والشر، خاصة في صورة الأفعى–التنين التي يتصدى لها الإله مردوك، الذي يصارع هذا الكائن الأفعواني المقرن ليظهر انتصار النظام على الفوضى.
وقد تجسدت هذه الرمزية في نقوش بارزة مثل لوح ناب الموجود في متحف اللوفر، ما يعكس الازدواجية العميقة للثعبان بين الخير والشر في الميثولوجيا البابلية.



