خدعة جحوتي التي سبقت طروادة بقرون.. ما القصة؟
خدعة جحوتي، في زمن الإمبراطورية المصرية القوية، حين كانت شمس النيل تمتد بسطوتها من الوادي إلى سواحل الشام، انطلق تحتمس الثالث في حملاته المتتابعة نحو غرب آسيا، يحمل رايات مصر ويقود جيشًا يزرع الرهبة قبل أن يصل، وبين قادة هذا الجيش ظهر اسم جحوتي، ذلك الجنرال الذي كان ذكاؤه أشد مضاء من حد الرماح، ودهاؤه أعظم من أسوار المدن التي يتحدث عنها التجار والرحالة، وكانت المهمة الموكلة إليه تبدو عصية، فقد طوق الجيش المصري مدينة جوبا، التي تعرف اليوم بيافا، محمية بأسوارها المرتفعة كدرع يحرس ثروات الشرق، كما استمر الحصار أيامًا طويلة، لكن جحوتي رفض أن يبقى أسير الطرق التقليدية، فكان يقول في داخله إن السيوف ليست وحدها التي تصنع النصر، بل العقول التي تقرأ الحرب كما يقرأ الكاهن أسرار السماء.
قصة خدعة جحوتي
وفي صباح صاف مشرق، أرسل جحوتي رسولًا إلى ملك جوبا يحمل كلامًا منسوجًا بدهاء، إذ ادعى أن الجنرال قد تمرّد على ملك مصر، ويرغب في الاحتماء بالمدينة ليبدأ عهدًا جديدًا، ودعا الملك إلى لقاء ووليمة تعلن الصداقة، فظن الملك أن الفرصة قد جاءت كي يكسب جحوتي دون أن يخسر جنديًا واحدًا، فأرسل رسالته مرحبًا، طالبًا أن تكون الليلة شاهدة على عهد السلام.
حل الليل، وازدانت مشاعل المعسكر بضوئها الذي يرقص فوق وجوه الجنود، وتعالت أصوات الضحك فوق موائد الطعام، بينما جلس الملك إلى جانب جحوتي في مشهد يوحي بالأمان، وتبادل الاثنان الكؤوس، وحكت الألسنة قصص الحروب والانتصارات، لكن خلف الابتسامة الهادئة، كان جحوتي يخفي خطة حادة كالخنجر، وعند نهاية الوليمة، وقف الجنرال ليقدم هديته، عشر عربات تجارية محملة بالزاد والمياه لتدخل إلى المدينة وتسد حاجتها.
ابتهج الملك بالهدية غير المتوقعة، وأمر بفتح أحد الأبواب الجانبية للسماح بدخول العربات تحت ظلام الليل، وتقدمت العربات ببطء، وأكياسها الكبيرة تتمايل كأنها محملة بالحبوب، حتى وصلت إلى قلب الحصن هناك، حدث ما لم يخطر ببال أحد، فقد انشقت الأكياس فجأة، لتخرج منها مجموعة من الجنود المصريين الأقوياء، مختبئين كما تختبئ الأفاعي في جحورها، وانطلقوا بسرعة خاطفة، يسيطرون على الحراس ويفتحون الأبواب لجيش مصر المنتظر خارج الأسوار.
وبلمح البصر تحولت جوبا من حصن شامخ إلى مدينة تسقط في يد المصريين دون خسائر تذكر، وارتفعت رايات تحتمس الثالث فوق أسوارها، شاهدة على كيد جحوتي الذي جعل الخداع سلاحًا يحسم المعارك دون دماء، قد وثقت هذه القصة في برديات هاريس خمسمئة، تلك الصفحات التي ما زالت تحفظ أسرار مصر القديمة، وقد نقلها الباحث أرون أليكسندر بأسلوب يجعل القارئ يعيش اللحظات كأنه فيها، والمثير أن هذه الحيلة تسبق أسطورة حصان طروادة الإغريقية بما لا يقل عن مئتي عام، وربما كانت أصل الإلهام الذي نقلته شعوب البحر إلى حكاياتهم، فبدت الأسطورة اليونانية صدى باهتًا لخطة مصرية سبقت زمنها.



