تاريخ ومزارات

بيت لحم لوحة التاريخ المقدس وملتقى الحضارات

أجراس تعلو من أعالي الكنائس وتراتيل يصدح بها المرنمون لتتناغم في سماء المدينة مع صوت الأذان ونداء المسلمين في مشهد فسيفسائي يجسد أسمى صور التسامح والإخاء والمحبة التي تجمع أبناء المدينة، ومن يسير في رحاب بيت لحم الواقعة وسط الضفة الغربية والمطلة على البحر الميت والقدس يدرك روحانية المكان ويشعر بعظمة التاريخ حيث تنطق جدرانها بعبق عريق ارتبط بميلاد السيد المسيح عليه السلام فكل حجر من حجارة كنائسها ومساجدها وأديرتها يحكي قصة شعب وأرض توالت عليها حضارات وثقافات متعددة.

ذكر المؤرخ العربي الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق أن بيت لحم هي الموضع الذي ولد فيه السيد المسيح وبينها وبين القدس ستة أميال وتضم كنيسة فسيحة متقنة البناء مزينة بأعمدة رخامية وفي ركنها الشمالي مغارة الميلاد حيث المذود الذي ولد فيه المسيح، كما أشار إلى كنيسة الملائكة التي بشر فيها الرعاة بالمولد.

أما الشيخ عبد الغني النابلسي فقد كتب في الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية أن نصف سكان بيت لحم مسلمون وأنها تستقبل أموالاً كثيرة من بلاد الإفرنج للرهبان المقيمين في الدير المجاور للكنيسة ووصف قناديل الذهب التي لا تنطفئ ليلاً ونهاراً عند مغارة الميلاد.

لم يتغير اسم بيت لحم عبر التاريخ إلا في تفاصيل بسيطة تعكس استمرارية عراقتها ويرجح أن أصل التسمية يعود إلى بيت إيلو لاهاما أي بيت الإله لاهاما إله الطعام عند الكنعانيين ويلاحظ التقارب بين لحم ولاهاما كما أن اسمها في العربية يعني الغذاء بينما عرفت قديماً باسم أفرات أو أفراته بمعنى الخصب والثمار وعند الآراميين بيت الخبز ومن هنا جاء اسم بيت لحم.

تاريخ وأهمية

يتحدث الباحث والمؤرخ خليل شوكة عن بيت لحم باعتبارها مدينة ضاربة في القدم مر عليها الآشوريون والبابليون والفرس والإغريق والرومان والبيزنطيون حيث احتلها الفرس عام 614 للميلاد ودمروا معظمها باستثناء كنيسة المهد ثم فتحها المسلمون بقيادة عمر بن الخطاب عام 637 لتتعرض لاحقاً للغزو الصليبي عام 1099 قبل أن يشهد عهد المماليك عام 1250 هدم أسوارها وإعادة بنائها ومن ثم حكمها العثمانيون حتى سقطت بيد البريطانيين عام 1917 خلال الحرب العالمية الأولى.

ويشير شوكة إلى أن مكانة بيت لحم الدينية شكلت جوهر أهميتها فهي مهد السيد المسيح ومقصد للحجاج المسيحيين من العالم حيث شيدت الإمبراطورة هيلانة كنيسة المهد التي أصبحت نواة للمباني والأديرة المحيطة بها منذ القرن الرابع الميلادي وحتى القرن العشرين مما جعل المدينة متحفاً معمارياً مفتوحاً يعكس تعاقب الأزمنة.

ويؤكد أن المدينة ما زالت حتى اليوم تحافظ على رونقها بأبنيتها الحجرية وأقواسها وزواريبها الضيقة وأحيائها القديمة محاطة بالوديان من ثلاث جهات ما يمنحها بعداً جمالياً فريداً، كما أنها من أهم الوجهات السياحية العالمية يقصدها الحجاج والسياح على مدار العام لزيارة كنيسة المهد وكنيسة القديسة كاترينا ومعالم دينية عديدة، وفي عام 2012 أدرجت كنيسة المهد ومسار الحجاج على قائمة التراث العالمي لليونسكو في إنجاز تاريخي لفلسطين.

كنيسة المهد

ينطلق الزائر عبر شارع النجمة حتى يصل إلى ساحة المهد حيث يجتمع الحجاج من أنحاء العالم أمام باب صغير يفرض على الداخلين الانحناء تكريماً للمكان المقدس، وداخل الكنيسة التي شيدها الإمبراطور قسطنطين عام 330 ميلادي تتجلى روعة الطراز الروماني بأعمدته الرخامية وزخارفه العريقة وتحتها مغارة الميلاد التي ولد فيها المسيح.

تحيط بالكنيسة أديرة متعددة تعود لطوائف مسيحية مختلفة ما جعلها مقصداً روحياً عالمياً ساهم في تطور بيت لحم وتحويلها من قرية صغيرة إلى مدينة بارزة، ويعتقد أن النبي يعقوب مر بها ودفن زوجته راحيل في موقع قبة راحيل القريب مما زاد من قدسية المكان لدى الديانات السماوية الثلاث.

ويصل الزائر إلى المغارة الضيقة التي تضم تمثال العذراء مريم وهي ترضع طفلها ويسود الاعتقاد أن حجارتها تحمل بركة خاصة فوق المغارة شيدت كنيسة بيزنطية في القرن الخامس تحمل اسمها لتظل شاهداً على قدسية المكان.

وقبالة الكنيسة يقع مسجد عمر بن الخطاب الذي بني عام 1860 على أرض قدمتها الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية ويشكل رمزاً للتعايش بين المسلمين والمسيحيين إذ جرت العادة أن يقدم المسيحيون زيت الزيتون لإضاءة قناديله بينما يتشارك الجميع الاحتفالات في ساحة المهد خلال الأعياد.

القديسة كاترينا

إلى الشمال من ساحة المهد تقف كنيسة القديسة كاترينا التي شيدت عام 1882 على أنقاض دير أوغستين وتعد الكنيسة الرعوية لطائفة اللاتين ومنها يقام قداس منتصف الليل لعيد الميلاد المجيد بحضور بطريرك اللاتين،

كما تحتوي سجلاً تاريخياً لعائلات المدينة منذ عام 1614 ما يجعلها مرجعاً تراثياً مهماً.

قلعة هيرودوس

على بعد خمسة كيلومترات جنوب شرق المدينة تنتصب قلعة هيرودوس على تل مخروطي بارتفاع 758 متراً فتبدو من بعيد كبركان خامد لكنها في الحقيقة صرح معماري ضخم بني عام 22 قبل الميلاد وتضم أسواراً وأبراجاً وغرفاً ملكية وحمامات رومانية وحدائق وبركاً مزخرفة ومخازن وأنفاقاً سرية، وقد كشفت الحفريات الأخيرة عن منصة حجرية ضخمة يرجح أنها ضمت قبر هيرودوس نفسه.

الدير المحرم

أما دير مارسابا فيقع بين الجبال قرب العبيدية وقد أسسه القديس سابا عام 478 ميلادي بمساعدة آلاف الرهبان وما زال محتفظاً بطابعه القديم، ويشتهر بصرامته حيث يمنع دخول النساء ويقيم فيه رهبان يونانيون يعتمدون على وسائل بدائية للمعيشة ويعتقد أن مياهه وسعف نخيله تحمل بركة خاصة للشفاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى