آداب المجالس.. عادات استقبال الخلفاء العباسيين لضيوفهم

تعتبر مجالس خلفاء بني العباس من الأمور المحورية في الحياة السياسية والثقافية للدولة الإسلامية، فكانت تنطوي على مجموعة من القواعد والآداب الدقيقة التي يجب على الحاضرين من الضيوف الالتزام بها، وقد جسدت هذه الآداب المتبعة مزيجًا من العادات العربية الإسلامية والتأثيرات الفارسية التي اقتبسها العباسيون، مما يعكس بوضوح مدى الرقي الحضاري والثقافي الذي تميز به ذلك العصر الذهبي.
آداب الدخول والتحية
اتسمت مجالس خلفاء بني العباس بجملة من الآداب التي ينبغي مراعاتها، لا سيما عند قدوم ضيف على مجلس الخليفة. كان من بين أبرز هذه الآداب أن يظهر الزائر بمظهر لائق، مرتديًا ثوبًا ملائمًا لموسم السنة، ويشترط فيه النظافة في الهيئة والمظهر، والوقار في الحركة والمشية، وأن يكون معطرًا بالبخور الذي يفوح من ملابسه وينتشر من طيات ثوبه، كما يجب عليه تجنب كل ما يعرف أن الخليفة ينفر منه أو يكره رائحته.
وكان على الزائر كذلك أن يلتزم بآداب التحية لحظة دخوله، وقد مرت تحية الخلفاء بتطور عبر الزمن منذ عهد الخلفاء الراشدين، إذ كانت التحية توجه بشكل عام في أول الإسلام فيقال: “السلام عليكم”، وكانوا يتحرجون من قول: “عليك السلام” لأنها تعد تحية للموتى.
ومع تداخل العرب بالأعاجم، وتأثرهم بنمط التراتبية لدى غيرهم من الأقوام، كان المغيرة بن شعبة (توفي 50هـ/670م) أول من تبنى تحية خاصة بالأمراء فقال: “يجب أن يكون هناك تمييز بين الحاكم ورعيته”، وأمر أتباعه بتحيته بعبارة “السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته” أو “السلام على الأمير ورحمة الله”، ومن ثم تبنى المسلمون ذلك، مضيفين عليه طابع الخلافة بقولهم: “السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته”، أو “السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله”.
مشهد الدخول الرسمي في مجلس الخليفة
عند دخولهم على الخليفة، يجلس الضيوف في أماكن تتوافق مع منازلهم ورتبهم الاجتماعية أو حسب مراتبهم المهنية أو صناعاتهم.
قواعد الجلوس والسلوك
ومن بين أهم القواعد التي ينبغي على الضيوف مراعاتها عند حضورهم مجالس الخلفاء، ألا يسأل الخليفة عن حاله أو يستفسر عن صباحه أو مساءه، كما يجب أن يجلس الداخل في المكان الذي يتناسب مع منزلته أو رتبته، سواء أكان ذلك من ناحية النسب أو المهنة.
ويتولى ترتيب أماكن الجلوس أحد خدم المجلس مثل الحاجب أو الآذن، وكان الخلفاء الأمويون يأمرون بأن يجلس بنو أمية بجوارهم على الأسرة، في حين يجلس بنو هاشم على الكراسي، ومع مجيء الدولة العباسية، أصبح لبني هاشم مكانة أعلى، فكانوا يسمون “الملوك والأشراف”، فيجلس الخليفة على سريره، ويجلس بنو هاشم تحته على الكراسي، بينما يجلس بنو أمية على الوسائد المخصصة لهم.
وعلاوة على ذلك، كان للكلام في المجلس آداب صارمة، فلا يجوز لأحد أن يبدأ الحديث ما لم يؤذن له بذلك، وإذا لم يمنح الإذن، وجب عليه الصمت، وقد استمرت هذه القاعدة حتى جاء الخليفة المأمون، الذي أتاح لأهل مجلسه الكلام والمناظرة بحضرته.
ولا يرفع الصوت في مجلس الخليفة، فعلى الضيف أن يتحدث بصوت منخفض، وينصت جيدًا لما يقوله الخليفة دون أن ينشغل عنه بشيء آخر، وعند قيام الخليفة، ينهض الجميع معه، كما لا يذكر أحد أمامه بكنيته، ما لم يمنحه هو شرف التكنية.
كما يجب على الحاضر أن لا يكثر من الالتفات يمنة ويسرة، أو يحرك يديه أو أطرافه، ولا يرفع ساقيه للتريح عند التعب، وينبغي أن يثبت نظره فقط على شخص الخليفة وكلامه، ولا يجوز أن يحادث أحدًا سرًّا في حضرته، أو أن يشير إليه بيده أو بعينيه، أو أن يقرأ كتابًا أو رسالة أمامه، إلا ما أذن له بقراءته عليه.
التأثيرات الفارسية وتطور آداب المجالس
وفي بدايات الإسلام، كان الحديث داخل مجلس الخليفة يتم باللغة العربية الفصحى، حيث كان يتم الالتزام بالإعراب وضبط الألفاظ، وكان الأمويون يبعثون أبناءهم إلى البادية لاكتساب الفصاحة. غير أن ذلك تغير في عهد بني العباس نتيجة التمازج مع الأعاجم، فأصبح اللحن شائعًا.
ومن بين ما اقتبسه العباسيون من الفرس هو نصب ستارة فاصلة بين الخليفة والحاضرين، وهي عادة كانت رائجة في عهد الملك أردشير الساساني (توفي 240م)، حيث كانت تنصب ستارة تبعد عن الملك والجالسين بمقدار 10 أذرع، وقد عمد العباسيون، ووزراؤهم البرامكة خصوصًا، إلى الإكثار من الحجاب، فبلغ عدد الستائر في بعض الحالات ثلاثًا أو أربعًا متتابعة.
وكان هذا الحجاب يستخدم غالبًا للفصل بين الخليفة وسائر طبقات العامة من الندماء والمغنين وغيرهم، دون الخاصة إلا في بعض الحالات، وكان يوكل إلى حاجب خاص يعرف بـ”صاحب الستارة” مهمة نقل ما يريد الخليفة قوله إلى الجالسين خلف الستارة.
طريقة انهاء المجالس
ومن العادات الأخرى المقتبسة من ملوك فارس، أن الخليفة إذا أراد إنهاء المجلس أطلق إشارة يعرفها الحاضرون فيغادرون، وقد نقل المسلمون هذه العادة عن الملك كسرى أنو شروان (توفي 579م)، إذ كان إذا أراد انصراف جلسائه مد رجليه، فقلده ملوكهم، وتبعهم المسلمون منذ الدولة الأموية.
وقد كانت لكل خليفة عباسي علامة خاصة يشير بها إلى نهاية المجلس، فعلى سبيل المثال، كان أبو العباس السفاح (توفي 136هـ/753م) يتثاءب ويلقي المروحة من يده، وكان الهادي (توفي 170هـ/786م) يقول “سلام عليكم” فيقوم الحاضرون، بينما كان هارون الرشيد (توفي 193هـ/809م) يقول “سبحانك اللهم وبحمدك” لينصرف جلساؤه.
أما المأمون (توفي 218هـ/833م)، فكان يعقد إصبعه الوسطى بإبهامه، ويقول “برق يمان برق يمان”، وكان المعتصم (توفي 277هـ/842م) ينظر إلى صاحب النعل، والواثق (توفي 232هـ/847م) كان يمس عارضيه ويتثاءب.
وعند مغادرة المجلس، يجب على الضيف أن يراعي آداب الخروج بأن يتراجع القهقرى ووجهه نحو الخليفة حتى يغيب عن نظره، ثم يستدير ليستأنف مشيه بشكل طبيعي.