الإسلام في ساحل العاج.. رحلة الإيمان والتاريخ من التجار إلى الممالك العريقة

تحرك التجار المسلمون منذ قرون نحو غرب إفريقيا بحثًا عن فرص التجارة والرزق، ومع مرور الزمن توسعوا جنوبًا ليصلوا إلى ساحل العاج، حيث ازدهرت تجارة العاج القادم من أنياب الفيلة. لم تكن رحلاتهم مقتصرة على التجارة فحسب، بل حملت في طياتها رسالة دينية سامية، إذ لفتت صلاتهم اليومية أنظار القبائل الوثنية التي أبدت اهتمامًا بهذا الدين الجديد.
تاريخ الإسلام في ساحل العاج
أخلاق التجار المسلمين، التي تجسدت في الصدق والأمانة، كانت العامل الأبرز في انتشار الإسلام بين القبائل المحلية، إذ أثارت دهشة السكان الذين رأوا أن المصحف الذي يحمله المسلمون في كل مكان هو سر نجاحهم وثرائهم، ما دفعهم للتعرف على تعاليمه. لم يقتصر التأثير على الأفراد فحسب، بل امتد إلى الملوك الوثنيين الذين استعانوا بالمسلمين في إدارة شؤونهم المالية والإدارية، مما جعل الإسلام يتغلغل أكثر في أوساط الحكم والمجتمع.
اعتمد التجار في بداية دعوتهم على سلوكهم وأخلاقهم، لكن مع بداية القرن العاشر الميلادي بدأوا في استقدام الفقهاء، خصوصًا من المغرب، لنشر التعاليم الإسلامية وتعميق الفقه بين السكان، فكان لذلك أثر واضح في انتشار المذهب المالكي في ساحل العاج وغرب إفريقيا، تمامًا كما هو الحال في المغرب. في عام 1025م دخل زعماء قبيلة الماندينجو الإسلام، وهي من أكبر وأهم القبائل في غرب إفريقيا، إذ تمتد أراضيها من ضفاف نهر النيجر شمالًا إلى المحيط الأطلسي غربًا وجنوبًا.
لعبت قبائل الماندينجو المسلمة دورًا محوريًا في استقلال شمال ساحل العاج عن مملكة غانة عام 1050م، ثم جاءت دولة المرابطين لتخوض حربًا استمرت قرابة عشرين عامًا حتى تمكنت من السيطرة على عاصمة غانة عام 1076م بقيادة أميرها أبي بكر بن عمر، منهية بذلك حكم المملكة العريقة. بعد اعتناق الماندينجو للإسلام، انتشر أبناؤها في أرجاء غرب إفريقيا لنشر الدعوة، لكن كثافة الغابات وفصلها بين الشمال المسلم والجنوب الوثني، بالإضافة إلى بُعد العواصم الإسلامية عن ساحل العاج، أعاقت وصول الإسلام إلى المناطق الجنوبية.
ساهم الإسلام في إحداث تغييرات جذرية في المجتمع، حيث اندثرت بعض العادات مثل التعري وانتشار الفوضى في العلاقات الاجتماعية، وحل محلها نظام الزواج وفق ضوابط شرعية تحدد عدد الزوجات وتعطي المرأة حق اختيار شريك حياتها، كما أُلغيت عادة توريث المرأة للابن أو الأخ، وأصبحت الأسرة أكثر تنظيمًا، إذ نالت المرأة حق الحضانة، وتم تقسيم الميراث وفق أحكام الشرع، وفرضت العقوبات على المجرمين وفق نظام القصاص الإسلامي.
شهدت المنطقة تعاقب العديد من الممالك الإسلامية، وكان أبرزها مملكة مالي التي عُرف ملوكها برحلات الحج، ثم تلتها ممالك صنغاي وكانم وبرنو، حتى ظهرت السفن الأوروبية على سواحل غرب إفريقيا في منتصف القرن الخامس عشر، حيث بدأ البرتغاليون أولًا ثم تبعتهم فرنسا وبريطانيا، ليبدأ فصل جديد من التغيرات السياسية والاقتصادية في المنطقة.
يستعد المسلمون في ساحل العاج لاستقبال شهر رمضان المبارك منذ بداية شهر شعبان، حيث تنطلق الاستعدادات بتنظيف المساجد وتزيينها وتشغيل المصابيح وإقامة حلقات الذكر، ليكون الشهر الكريم عامرًا بالعبادة وقراءة القرآن والتفسير. تتكثف أعمال الخير والصدقات، حيث تعلن المؤسسات الدينية والاجتماعية عن برامج الدعم، فتجمع التبرعات النقدية والمواد الغذائية مثل الأرز والسكر والحليب، ليتم توزيعها على المحتاجين في الأحياء الفقيرة.
تكتسب موائد الإفطار الجماعية طابعًا خاصًا، حيث يجتمع السكان حول مائدة واحدة يوميًا، في مشهد يعكس روح التكافل والأخوة والمساواة، وبعدها يتوجه المصلون لأداء صلاتي العشاء والتراويح، فتزدحم الشوارع بالمؤمنين المتجهين إلى المساجد والمصليات. في العشر الأواخر من رمضان تزداد أعداد المعتكفين في المساجد، حيث تتواصل تلاوة القرآن وذكر الله، فيما تحظى ليلة القدر بمكانة خاصة لدى العاجيين الذين يحيونها في أجواء روحانية عامرة.