دورا أوروبوس.. قصة مدينة نهر الفرات وأسرارها التاريخية الخالدة
على ضفاف نهر الفرات، الذي لطالما كان رمزاً للحياة والعطاء للجزيرة السورية، تتربع مدينة دورا أوروبوس، التي تعرف أيضاً باسم الصالحية. هذه المدينة التي تبعد حوالي 90 كيلومتراً عن مدينة دير الزور، كانت شاهداً على تاريخ زاخر يمتد من عصور ما قبل الميلاد وحتى عام 256م. المدينة وقفت صامدة في وجه الصراعات، واستقطبت الأصدقاء بفضل موقعها الاستراتيجي، لكنها دفعت ثمن هذا الموقع وسط صراع الروم والفرس.
تاريخ دورا أوروبوس
نشأت دورا أوروبوس على ضفاف الفرات عندما قرر سلوفوس نيكاتور، قائد الإسكندر المقدوني، بناء مدينة مستوحاة من مدينته اليونانية أوروبوس. في القرن الرابع قبل الميلاد، تأسست هذه المدينة كمنتجع شتوي ومقر لرحلات الصيد، لتصبح لاحقاً مركزاً عسكرياً مزدهراً في عهد السلوقيين والرومان. وفيما بعد، تحولت إلى نقطة تلاقٍ تجارية مهمة خلال فترة سيطرة تدمر، حيث عبرتها القوافل القادمة من آسيا والخليج العربي والهند، لكنها تعرضت للدمار على يد الفرس بقيادة شابور الأول، مما أدى إلى اندثارها تحت الرمال ونسيانها لقرون.
مع تقسيم بلاد الشام والعراق وفق معاهدة سايكس بيكو، أصبحت منطقة الفرات خاضعة للإدارة البريطانية. في عام 1920، وبينما كان أحد الضباط البريطانيين يصطاد على ضفة الفرات، اكتشف رسوماً جدارية وبقايا أبنية، ليتيقن من وجود مدينة أثرية. هذا الاكتشاف دفع السلطات لتكليف العالم البلجيكي فرانز كومان بإجراء تحريات، ليتبعه فريق من جامعة ييل الأمريكية وأكاديمية العلوم الفرنسية. تحت معاولهم، ظهرت ملامح المدينة المطمورة، لتعيد اكتشاف حضارة عريقة غطاها الزمن.
ملامح المدينة
كما بنيت دورا أوروبوس على هضبة طبيعية ترتفع 50 متراً عن سطح الأرض، وتطل على نهر الفرات. المدينة محاطة بسور دفاعي مدعم بأبراج عالية ومحصنة بأودية طبيعية. تبلغ مساحتها داخل الأسوار 73 هكتاراً، وشوارعها منظمة وفق النمط الهليني اليوناني. المدينة تحتوي على ثلاثة أبواب رئيسية: باب تدمر من جهة الغرب، باب الفرات، وباب القوافل من جهة الجنوب. ورغم مرور الزمن، لا تزال بقايا بعض الأبواب والأبراج قائمة، كشاهد على عظمتها.
بني السور الدفاعي للمدينة من الحجر الكلسي والطين المشوي، وأبراجها مربعة الشكل ومدعمة بقوة. وفي أطراف المدينة، تقع قلعة كبيرة بنيت أيام التدمريين، لتكون مركزاً لحمايتهم ضد الفرس وهجمات البدو. تخطيط المدينة يعكس مزيجاً فريداً بين الطراز اليوناني والهندسة العسكرية، ما يجعلها نموذجاً مميزاً للمدن القديمة.
اشتهرت دورا أوروبوس بتنوعها الديني، حيث احتضنت معابد للإلهة أدونيس وحدد وزويوس، إلى جانب كنيس يهودي تعرض بقاياه في متحف دمشق. كما عرفت المدينة بأقدم كنيسة مسيحية في العالم، تعود إلى عام 245م، وتحتوي على لوحة جدارية تمثل السيد المسيح كراعٍ يمشي على الماء. هذه الكنيسة تعدّ أحد أعظم الآثار المسيحية في التاريخ، وتم نقل معظم مكوناتها إلى متحف المتروبوليتان في الولايات المتحدة.
إلى جانب الأوابد الدينية، تضم دورا أوروبوس العديد من المنشآت الأخرى، مثل الحمامات العامة والمسرح والساحة العامة “الأغورا”. كما كانت المدينة مركزاً ثقافياً يعكس التداخل الحضاري بين الشرق والغرب، إذ حملت تماثيل بعل وحدد ويرحبول السورية طابعاً مميزاً إلى جانب تماثيل أفروديت وهرقل اليونانية.