قصر المانسترلي: من مقر رئيس القاهرة إلى مركز الموسيقى
تمثل تلك القصور تاريخًا حيًا لا تُطوى صفحاته في كتب أو مجلدات، بل تحرص بشدة على إثبات قوتها أمام صعوبة العبث التي بدأت بشوائية أهداف ومحو أسماء أصحابها من على جدرانها، ومن اللافتات التي كانت تحمل أسماءهم تكريمًا لهم في خدمة الوطن. هنا نستعرض قصصًا وحكايات بعد أشهر القصور المصرية.
عززت عراقة جزيرة الروضة اهتمام جلال الدين السيوطي، الذي أفرد لها مؤلفًا بعنوان “كوكب الروضة”، حيث تناول فيه جمال حدائقها الذي أشار إليه أيضًا علماء الحملة الفرنسية. في هذه الجزيرة، نشأت صناعة السفن التي خدمت أسطول الدولة الإسلامية، وأقام فيها الخلفاء قصورهم بدءًا من أحمد بن طولون وصولًا إلى السلطان الغوري، حيث كانت تحيط بها مقاعد الأنس وأكشاك الحريم المطلة على النيل.
جاء حسن باشا المانسترلي ليكون كتخدا لمصر، أي نائب الحاكم، في عهد الخديو عباس حلمي الأول، ثم تولى منصب وزير الداخلية. استحوذ على جزء كبير من أراضي الجزيرة، وأقام سرايته المهيبة التي لم يتبقَ منها سوى السلاملك المعروف اليوم بقصر المانسترلي.
السراي المندثر
تولى المانسترلي منصبه من عام 1804 حتى 1850، وسُمي بهذا الاسم نسبة إلى مدينة مانستر في مقدونيا. وعُين لاحقًا رئيسًا لمجلس الأحكام المصرية ومحافظًا للقاهرة.
كان له دور بارز في إدارة العديد من القضايا، حيث أُرسل من قبل سعيد باشا لاستطلاع أوضاع مصطفى باشا الخازندار، الذي كانت تدور حوله شائعات عن امتلاكه لأكثر من مئة فارس، لكن المانسترلي تأكد أنه يملك فقط عشرين فارسًا لحماية الحريم.
حقق المانسترلي شهرة واسعة وامتلك أراضي شاسعة في الجيزة، حيث أنشأ سرايته الكبيرة في أقصى جنوب جزيرة الروضة، والتي ضمت حديقة واسعة وسرايا للحريم وسلاملكًا مخصصًا للرجال.
اليوم، لم يتبقَ من تلك المنشآت سوى السلاملك الذي يقع بجوار مقياس النيل. وثائق محفوظة من سجلات الباب العالي توثق أوصاف تلك المنشآت، وقد تحول الموقع إلى محطة مياه وبعض المنشآت الحديثة.
تعود كلمة “السلاملك” إلى الأصل التركي، وتعني القسم المخصص للرجال في البيت أو القصر، بينما تعرف المنطقة الخاصة بالنساء بالحرملك.
تصف الوثائق السلاملك المعروف بكشك المانسترلي، وهو المبنى الوحيد المتبقي من منشآت حسن فؤاد بجزيرة الروضة، رغم اختفاء بعض ملحقاته، بما في ذلك السقف الروضي المخصص للجلوس في الصيف.
تبلغ مساحة المبنى 100 متر مربع، ويتكون من صالة رئيسية مستطيلة محاطة بمجموعة من الحجرات. يتميز بتصميمه الفريد وزخارفه النباتية التي تحمل تأثير الروكوكو العثماني، مع ظهور علم الدولة العثمانية كتعبير عن ولاء المانسترلي للخلافة.
يتجلى التأثير الفرعوني في الكورنيش الذي يزين الواجهات الخارجية، وتتنوع أشكال الأسقف بين المستوية وأشكال أنصاف القباب. تم بناء المبنى وفق نظام الحوائط الحاملة، باستخدام الحجارة الجيرية الحمراء لمقاومة الرطوبة.
الدولة تتولى القصر
منذ نهاية الثمانينيات، تعاون المجلس الأعلى للآثار وصندوق التنمية الثقافية على ترميم القصر، بما في ذلك إصلاح السقف والدهانات وتجديد الأرضيات. كما تم إنشاء كوبري خشبي جميل يربط ضفتي النيل، مع توفير محال صغيرة تقدم للزوار منتجات تعكس التراث المصري.
حُوّل القصر اليوم إلى مقر للمركز الدولي للموسيقى، بجوار الجامع الذي أنشأه المانسترلي، حيث دُفن بعد وفاته عام 1859.