مريم عليها السلام: الأم العذراء وقصة اصطفائها وتحدياتها العظيمة
في وسط عالم مليء بالفساد والاضطراب، كانت السيدة مريم عليها السلام تعيش بين قومٍ أفسدوا دينهم وابتعدوا عن طريق الحق، إلا أن الله سبحانه اصطفاها من بين نساء العالمين لتكون نموذجًا للعبادة والطهارة. إذ أنزل الله الملائكة مبشرين إياها: “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ” لتبدأ معها رحلة مليئة بالاختبارات والمواقف الإيمانية العظيمة.
من هي مريم عليها السلام
ولدت مريم في عائلة صالحة تقيّة، فوالداها عمران بن ماتان وزوجته حنة بنت فاقوذ كانا من أهل الإيمان والعبادة. بعد سنوات طويلة من الانتظار بلا أطفال، دعت حنة الله أن يرزقها بولدٍ، ونذرت أن يكون هذا الولد لخدمة بيت المقدس. استجاب الله دعاءها، ولكن لحكمته جل وعلا، رزقها بأنثى، فسميت مريم. كانت ولادة مريم بداية لقصة مؤثرة مفعمة بالإيمان، حيث عاشت طفولة يتيمة بعد وفاة والدها، وأخذتها والدتها إلى الهيكل لتوفي نذرها لله.
في الهيكل، أحاطتها عناية الله وتكفل بها النبي زكريا عليه السلام، بعدما تنازع الأحبار على من يكفلها، فتم الاقتراع بينهم، وكان زكريا هو من كفلها. وكانت مريم قد حظيت بمكانة خاصة، حيث كلما دخل زكريا عليها في محرابها، وجد عندها رزقًا لا يعرف مصدره، فكانت تأتيها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. في هذا الموقف العظيم قال زكريا: “يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ”. هذا المشهد الإيماني ألهم زكريا ليدعو الله أن يرزقه هو الآخر ولدًا صالحًا، فاستجاب الله دعاءه وبشره بيحيى عليه السلام.
كبرت مريم عليها السلام في الهيكل محاطة بالرعاية الإلهية، حتى بلغت سن الشباب، عندها قررت الابتعاد عن الناس والانعزال للعبادة والخشوع. وبينما كانت منشغلة في صلاتها، جاءها جبريل عليه السلام ليبشرها بولادة المسيح عليه السلام، ففزعت مريم بداية، واستنكرت كيف يكون لها ولد وهي لم يمسسها بشر. كان جواب جبريل: “كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ”. وهكذا حملت مريم بالمسيح بأمر الله، وابتعدت عن قومها حين شعرت بثقل الحمل، حتى جاءها المخاض تحت جذع نخلة، فأنزل الله عليها سكينته، وأمرها أن تهز جذع النخلة فتساقط عليها رطبًا جنيًا لتأكل وتشرب وتهدأ نفسها.
عندما عادت مريم إلى قومها تحمل المسيح، استقبلوها بالاتهامات، متسائلين كيف أتت بولد وهي لم تكن معروفة بالسوء. فأشارت مريم إلى المسيح وهو في مهده، فنطق بقدرة الله: “إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا”، ليكون هذا الموقف دليلًا قاطعًا على براءتها واصطفاء الله لها ولابنها.
رغم هذا الدليل، لم يتوقف أعداء الله عن كيدهم، فحاولوا قتل المسيح، مما دفع مريم للهرب معه ومع يوسف النجار إلى مصر، حيث عاشوا هناك لسنوات. وبعد وفاة الملك الظالم الذي كان يسعى وراءهم، عادت مريم مع ابنها إلى فلسطين، لتستقر في بلدة الناصرة حتى بدأ المسيح دعوته. في تلك الفترة، واجهت مريم اضطهاد اليهود وكيدهم لابنها، حتى رفعه الله إلى السماء وألقى شبهه على أحد تلاميذه الخائنين.
بعد رفع المسيح بخمس سنوات، توفيت مريم عليها السلام وهي في الثالثة والخمسين من عمرها. يُقال إن قبرها موجود في دمشق، لتظل قصتها عبرة للأجيال عن الصبر والإيمان والاصطفاء الإلهي.