الخانقاه: مراكز روحية وعلمية تعيد إحياء التراث الإسلامي
الخانقاه هي كلمة فارسية تعني “البيت”، وهي عبارة عن بناء ديني فريد يجمع بين عبق الروحانية وتدريس العلوم الشرعية. تتكون الخانقاه من ساحة مركزية محاطة بأربعة أواوين، وهي خالية من المئذنة والمنبر، ولا تُقام فيها صلاة الجمعة. غالباً ما تضم ضريحاً ومدرسة وسبيل، وتُدرس فيها العلوم الدينية مثل الحديث والشريعة والفقه والتفسير، مما يجعلها مشابهة للمدارس في التصميم والدور التعليمي.
تاريخ الخانقاه
ما يميز الخانقاه عن المدارس التقليدية هو دورها الواسع والشامل، فقد كانت مكاناً لتعليم العلوم الدينية والعلمية على حد سواء. استضافت المجاهدين والطلاب وشيوخ المحاربين والمتصوفين، هؤلاء الذين ارتبطت أسماؤهم أيضاً بمصطلحات أخرى مثل الدويرة والزواية والرباط والتكية. وفيما ازدهرت كمعلم ديني واجتماعي، فقد تراجعت لاحقاً لتصبح مجرد مأوى للفقراء، مما أدى إلى تراجع دورها الاجتماعي والثقافي الذي كان بارزاً في المجتمع الإسلامي.
مع العثمانيين، عُرفت الخانقاه باسم “التكية”، وهو الاسم الذي انتشر في أماكن مثل المغرب، حيث لم تكن “الخانقاه” معروفة بهذا الاسم. وقد حظيت الخانقاه باهتمام خاص من قبل المسلمين، وتحولت في دمشق إلى قصور مزخرفة بأجمل الزخارف. وامتدت الخانقاه شرقاً إلى إيران، ومن ثم إلى أفغانستان في عهد الغزنويين، ووصلت إلى الهند حيث استمرت في الانتشار منذ القرن التاسع الهجري وحتى العصر الحديث.
يعتقد أن الخانقاه الأولى أُقيمت في الرملة بفلسطين في مطلع القرن الثاني للهجرة، ولكن هذا التاريخ غير مؤكد. يرجح أنها ظهرت في الإسلام في حدود القرن الرابع الهجري وازدهرت بشكل ملحوظ في القرن الخامس بفضل السلاجقة في إيران والعراق وتركيا وسوريا. لم تظهر الخانقاه في مصر إلا بعد نهاية الحكم الفاطمي، حيث حظيت برعاية خاصة من صلاح الدين واستمرت أهميتها مع المماليك. لكن بريقها بدأ يخفت تدريجياً ابتداءً من القرن الثامن الهجري، وأصبحت جزءاً من مجمعات دينية تضم المساجد والمدارس والأضرحة.
أقدم نموذج للخانقاه في مصر هو خانقاه بيبرس الجاشنكير، الذي أُنشئ في العام 1307م. وهناك نموذج آخر في حلب يُعرف بخانقاه الفرافرة، الذي بُني عام 1337م. تقع خانقاه الفرافرة في محلة الفرافرة بمدينة حلب، وقد بُنيت خصيصاً لإيواء المتصوفين من قبل ضيفة خاتون الملك العادل سيف الدين أبي بكر عام 1237م.
يتزين مدخل الخانقاه بمقرنصة ذات ثلاث حطات، تعلوها زخارف هندسية رائعة، ويعلو المدخل لوحة تاريخية تذكر بأن البناء أُنشئ في عهد السلطان الملك الناصر يوسف بن العزيز محمد عام 1237م. يفضي المدخل إلى دهليز يؤدي إلى ساحة مربعة تتوسطها بركة ماء مثمنة. على الجهة الشرقية من الساحة يوجد دهليز آخر يؤدي إلى فسحة مربعة تحيط بها إيوان صغير وثلاث غرف.
تمتد جدران الغرف والإيوان في الطابق الأول بشكل مائل لتشكل ما يشبه القبة المقطوعة من الأعلى. يتفرع من الممر السابق ممر آخر يؤدي إلى الطابق الثاني الذي يحتوي على غرف بسقوف نصف أسطوانية. في الجهة الغربية من الساحة يوجد درج يؤدي إلى سطح الإيوان بعد المرور بممر ضيق مسقوف يتخلله عدة غرف كانت تُستخدم لإيواء المتصوفين.
تعلو الحرم قبة مرتفعة تستند إلى عنق مثمن الشكل بواسطة أربع زوايا مثلثية كروية، وفي أسفلها مقرنصات تحول الشكل المثمن إلى دائري. يتميز المحراب بتصميمه الرخامي، يحيط به عمودان رخاميان مزينان بتجان مزخرفة، وتعلوه تزيينات من الرخام الملون تشكل جدائل بديعة.
الخانقاه إذًا، كانت ولا تزال شاهداً على الحضارة الإسلامية الغنية بالعلم والفن والروحانية، ورغم تراجع دورها التاريخي، إلا أن بريقها وتراثها يظلان محفورين في ذاكرة الزمن.