المزيد

زاهر المحروقي يكتب:النجم روجر ووترز ورسالة الفن

هل يجب أن تكون للفن رسالة؟! نوقش هذا الموضوع كثيرًا؛ وقد أعاده إلى نفسي نجم الغناء البريطاني روجر ووترز، بتصريحه الذي قال فيه -تعبيرًا عن مأساة رفح- مخاطبًا الإسرائيليين:‏ «أيها الإسرائيليون، أنتم دولة فاشلة. انتهى الأمر، احزموا أمتعتكم وارحلوا. لقد حان الوقت لتفعلوا الصواب»، ودعاهم لأن يعودوا إلى أوروبا الشرقية وأمريكا، ومن حيث أتوا، ويدَعُوا الأرض لأصحابها (الفلسطينيين). وقد انتشر المقطع انتشارًا كبيرًا وتناقله الناس عبر الواتساب.

ما فتئ ووترز يعبّر عن تضامنه القويّ مع القضية الفلسطينية، على الرغم من التهديدات التي يتعرّض لها واتهامه بـ«معاداة السامية»، نتيجة دعمه الشعب الفلسطيني، إلا أنه ثابت في موقفه ومستمر في مهاجمة الاحتلال الإسرائيلي، بسبب الإبادة الجماعية التي يرتكبها ضد الفلسطينيين، ومحاولاته تهجير سكان قطاع غزة إلى صحراء سيناء.

مواقفُ ووترز المؤيدة للقضية الفلسطينية ليست جديدة؛ فهي معروفة منذ سنوات طويلة، سبقت طوفان الأقصى، لكنها زادت قوة وصلابة بعد الطوفان، إذ تحدّث عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين خلال مقابلة مع الصحفي الأمريكي جلين غرينوالد، جدّد فيها دعمه للنضال الفلسطيني، خاصةً ما تنفذّه حماس من مقاومة باسلة للاحتلال، مؤكدًا أنّ هذه المقاومة حقٌّ، وفقًا لاتفاقية جنيف. وفي كلّ الحفلات التي أقامها في عواصم العالم المختلفة، كان حريصًا على ارتداء الكوفية الفلسطينية، مما أثار حفيظة الإسرائيليين، ولكن الموقف الأقوى هو رفضه الغناء في الأرض المحتلة. وعندما توجّهت إليه صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية بسؤال حول عدم إحياء حفلاتٍ في «إسرائيل»، ردّ بالقول: «لا أهتّم لهم ولا أهتّم بهم، جاؤوا لحفلاتي أمْ لا، أنا لا أستطيع تغيير الناس؛ فهذه ليست وظيفتي، منذ سنواتٍ طويلةٍ أتلقّى اقتراحاتٍ بالقدوم إلى تل أبيب وإحياء حفلاتٍ بهدف إقناع الجمهور بصوابية معتقداتي وأفكاري، لكنْ ردّي كان وما زال وسيبقى، مُقاطعة إسرائيل مُستمرّةً، لأنّي أؤمن إيمانًا قاطِعًا بحُريّة الإنسان».

هل يمكن أن يُترك ووترز، أن ينال من إسرائيل، وهو بهذه الشهرة؟! ردَّ على السؤال بنفسه، عندما تحدّث مع صحيفة ألمانية عن أنّ اللوبيَّيْن الإسرائيليّ والصهيونيّ يُلاحقانه بصورةٍ شائنةٍ؛ بسبب مواقفه المؤيّدة للفلسطينيين، ويُحاوِلان من خلال حملةٍ منظمّةٍ ومُكثفةٍ إلصاق تهمة معاداة الساميّة به، وهي التهمة التي أنكرها، إذ قال إنّه «لم يكُن يومًا معاديًا للسامية ولن يكون كذلك». لكن كما نعلم فإنّ تلك التهمة تُلصق دائمًا بكلّ من يقف مع حقِّ الشعب الفلسطيني في العيش الكريم، لهذا فإنّ هناك من يحاول دائمًا إسكات ووترز وإلغاء حفلاته في العالم، مثلما حدث في ألمانيا العام الماضي. والواضح أنّ الفنان البريطاني رغم كلِّ ذلك ملتزم بمبادئه، ولن يتزحزح عنها: «إنّهم يُريدون إسكات صوتي الذي خصّصتُه من أجل العدل والمُساواة في العالم منذ كنت طفلًا، ومطالبتي الدائمة بإحقاق المساواة بين جميع بني البشر دون تفرقة بسبب العرق أوْ الدِّين أوْ الجنسيّة، ولا يمكن لنظام العزل العنصريّ في إسرائيل أنْ يمنعني. معًا سنتحرر».

المواقف الرسمية الغربية هي مواقف معادية للشعوب العربية عامةً وللقضية الفلسطينية خاصة، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها الآن وقد ظهرت جليًّا مع طوفان الأقصى، وليس معنى هذا أنّ الغرب لا يعدم أحرارًا؛ فمظاهراتُ الجامعات الأمريكية والغربية أظهرت أنّ هناك أناسًا أحرارًا، ظلوا سنوات مخدوعين بالإعلام الرسمي الموجّه، لكن طوفان الأقصى ووسائل التواصل الحديثة أوصلت الحقيقة للناس، فتغيّرت نظرتهم للأمر. وما يفعله النجم روجر ووترز لا يمكن أن يُقدّر بثمن، فهو يؤكد أنّ هناك أحرارًا في العالم يؤمنون بالحقّ، ولا يمكن أن ننسى أنه كان من بين 600 موسيقي وقّعوا على رسالةٍ مفتوحةٍ يطالبون فيها زملاءهم الفنانين بمقاطعة العروض في إسرائيل حتى تكون هناك (فلسطين حرة)، وأنشأوا مجموعة «موسيقيون من أجل فلسطين» وجاء في ديباجة المجموعة: «ندعوكم للانضمام إلينا باسمكم في رفض أداء الأعمال الفنية في المؤسسات الثقافية الإسرائيليّة المتواطئة، والوقوف بحزم في دعمكم للشعب الفلسطينيّ وحقّه الإنسانيّ في السيادة والحرية». وإزاء موقف كهذا ربما نتساءل أين العرب من مواقف كهذه؟ ألم نقرأ ونشاهد من يسبقون أسماءهم بألقاب الشيوخ يقفون مع الكيان الصهيوني ضد إخوانهم في الدين والعقيدة واللغة، ألم نقرأ لصحفيين عرب كانوا أكثر صهيونية من الصهاينة؟

وإذا عُدنا بذاكرتنا إلى عام 2011، فإني أذكر أني قرأتُ ترجمة لمقال كتبه روجر ووترز في صحيفة «الجارديان» البريطانية -وكانت تلك أول مرة أسمع به- ذكر فيه أنه دعي لتقديم عروض موسيقية في تل أبيب، إلا أنّ فلسطينيين من حركة تدعو إلى المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل تواصلوا معه وشرحوا له الانتهاكات التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين، وطلبوا منه المجيء إلى فلسطين كي يعاين الأمر بنفسه. وبالفعل، زار القدس وبيت لحم تحت حماية الأمم المتحدة، وشاهد بنفسه جدار الفصل العنصري، ومنذ ذلك اليوم قرر الوقوف إلى جانب الفلسطينيين، وامتنع عن إقامة حفلات في تل أبيب؛ لأنّ ذلك قد يعطي شرعية للحكومة الإسرائيلية. وتناول في مقاله مشاهداته عن سكان غزة قائلًا إنهم مسجونون فعليًّا خلف جدار الحصار الإسرائيلي غير القانوني، ووصف معاناة الأطفال الذين يعانون من نقص التغذية وانعدام الأمان، ودعا جميع المنصفين في أنحاء العالم أن يدعموا القضية الفلسطينية.

فنّانٌ بريطانيّ تجاوز الثمانين من عمره، يقف بهذه الصلابة مع القضية الفلسطينية، يقاطع ويناضل من أجل قناعاته -مع ما يتعرّض له من مضايقات- هو أفضل بكثير من بعض العرب سواء كانوا رسميين أو شيوخًا أو إعلاميين أو فنانين، فهو بذلك أعطى للفن قيمة، وهو في مجاله قد أدى دوره وواجبه الإنساني، فلا فرق بين رصاصة وكلمة صادقة وأغنية هادفة.

إنّ لسان حال الفنان البريطاني روجر ووترز هو أنّ القضية الفلسطينية ستبقى الخط الفاصل بين الحقّ والباطل، وعلى المرء أن يختار أن يكون حرًا -رغم التضحيات- لكنه يكسب نفسه، أو أن يكون ذليلًا ويدعم الباطل، لكنه بالمقابل يخسر نفسه.

زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»
https://www.omandaily.om/أفكار-وآراء/na/النجم-روجر-ووترز-ورسالة-الفن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى