علي بن مسعود المعشني يكتب: النتائج الحتمية للنضال التراكمي
كان المناضل العربي الفلسطيني الدكتور جورج حبش يُردد عقيدته النضالية وقناعته في مقولة: “إنَّ نضالنا مع العدو سيمتد إلى مائة عام، وعلى قصيري النفس أن يتنحوا جانبًا من الآن”.
الثورات والنضال والمقاومة علوم وتخصصات وليست نزوات عابرة، ولا مطلب جاه شخصي أو جماعي، لهذا أفرد الغرب الاستعماري في مراكز بحوثه وجامعاته تخصصاً دقيقاً يسمى بـ”علم إفشال الثورات”؛ لأنَّ الرأسمالية المتوحشة هي الوصفة الجاهزة على الدوام لتفجير الثورات، لما تحمله هذه المنظومة من أدوات ظلم وطبقية وإكراه، رغم ملمسها الظاهر الناعم ولحنها الجميل في دغدغة مشاعر الضعفاء من دعاة الدعة والعلف باسم الاستقرار.
الاستعمار اليوم لم يعد جحافل جيوش وضباط ومندوبين ساميين يقررون أمر الدول والشعوب، وينهبون ثرواتهم بوضع اليد والقهر المُنظم؛ بل أدوات تُكرِّس التبعية والانبهار إلى حد التقليد فالتطابق فالانصهار. وقضية فلسطين ليست قضية احتلال فحسب؛ بل منظومة احتلال متكاملة، ظاهرها احتلال عسكري استيطاني، وباطنها إلغاء أمة من الوجود.
والمتأمل بعمق في السلوك الصهيوني ورعاته منذ احتلال فلسطين عام 1948م، يرى حجم ما صاحب هذا الاحتلال من سرديات مضللة، بأحقية الكيان بفلسطين، وفرض ثقافة القوة الغاشمة على أمة ممزقة تفتقر إلى أدنى أسباب القوة المادية، في التصنيع والزراعة والأمن الغذائي، والأهم من ذلك مفهوم الأمن القومي العربي والمصير المشترك للأمة.
الواعون- على قلتهم- بخطورة الكيان الصهيوني كمشروع غربي في قلب الأمة، فهموا مبكرًا أن فلسطين هي البداية وليست النهاية لإخضاع الأمة وتطويعها خوفًا وطمعًا، بينما فسر الحالمون حالة فلسطين بأنها حالة احتلال أربكت المشهد العربي وأعاقت تنميته وتضامنه وأرقت استقراره، ولا بُد من التسليم بقوة العدو ورعاته والإقرار بحقه في فلسطين، بحجة “الواقعية السياسية” واختلال توازن القوى بين عرب زماننا والغرب.
لهذا كانت جهود النضال عادة تجابه بالتخاذل أحيانًا والدعم الخجول أحيانًا أخرى، حتى حلت علينا كامب ديفيد وثقافتها البائسة، فقمست العرب بين مُطبع وشبه مُطبع وقليل مناضل، وهذا ديدن الحق ونصرته دائمًا.
تدويل النضال الفلسطيني كان وبلا شك وبالًا على القضية رغم صدق نوايا بعض المُدَوِّلِين، ولكن التدويل نزع السيطرة من أصحاب القضية وأضعف موقفهم إلى حد كبير، وما أضعف المقاومة الفلسطينية أكثر كان تواجدها وانطلاقها النضالي من جغرافيات ليست لها، الأمر الذي سبب لها ولتلك الجغرافيات خسائر وضغوط وحرج كبير، وجميعنا يعلم مصير فصائل المقاومة في عدد من الأقطار العربية عبر مسيرة تاريخها النضالي.
اليوم ينطلق النضال الفلسطيني من قلب فلسطين، ومن جوار فلسطين الحيوي كذلك والمتمثل في جنوب لبنان، وبالنتيجة فإنَّ المعطيات انقلبت، والمفاهيم اختلفت؛ بل وحتى العقائد القتالية مُشبعة أكثر من ذي قبل بالتفاني النضالي في سبيل الأرض والعرض. ولا شك أن فصائل المقاومة بفلسطين اليوم هي امتداد لنضال جيل الـ48 وما قبله من مناضلين، ومن تلاهم كذلك، لهذا كانت ثأراتها اليوم عظيمة وقوية بقدر تلك السجلات والتضحيات الخالدة في سبيل فلسطين؛ بل وفي سبيل الأمة العربية بكرامتها وشرفها وكبريائها الذي تمثل رمزيته التاريخية اليوم فلسطين وليس سواها.
فلسطين الأمس واليوم ليست جغرافيا عربية لقوم عرب؛ بل رمزية تاريخية تحمل كل الشرف والكبرياء العربي، والانتصار لها لا يعني عودتها الطبيعية للحضن العربي فحسب؛ بل عودة الوعي العربي بكله، وشفاءه التام من جميع أعراض وسموم احتلال وتغرير وتزييف وعي لأكثر من عشرة عقود عجاف.
قبل اللقاء.. أعجبني أحدهم حين قال: “إن زوال فرعون لم يكن بالغرق؛ بل حين ولادة سيدنا موسى عليه السلام”.
وبالشكر تدوم النعم.