د. محمد السعيد إدريس يكتب: أمريكا فى ورطة سؤال ماذا بعد إسرائيل؟
لم تكد الدماء تجف إثر المحرقة المهولة التى ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلية عندما ضربت الطائرات الإسرائيلية «مخيمات» النازحين بمنطقة «تل السلطان» شمال غربى رفح (26/5/2024) والتى راح ضحيتها 45 فلسطينياً، بينهم أطفال ونساء كانوا جميعهم فى انتظار المعونات الغذائية حيث فاجأتهم القنابل الأمريكية الحارقة لتبيدهم، حتى وقعت مجزرة أخرى أكثر مأساوية فى «مخيم النصيرات» تحت غطاء تحرير رهائن إسرائيليين يوم السبت الماضى (8/6/2024) .
فى المجزرة الأولى كانت الطائرات أمريكية الصنع، وكانت القنابل أمريكية الصنع، أما فى مجزرة «مخيم النصيرات» فإن التورط الأمريكى كان مباشراً ومفضوحاً ابتداء من عمليات التجسس ونقل المعلومات التى تحدد مناطق إخفاء الرهائن إلى التخطيط للعملية والمشاركة فى تنفيذها عبر وحدة «كوماندوز» أمريكية، إلى تيسير نقل الرهائن إلى إسرائيل عبر الرصيف البحرى الذى أقامه الأمريكيون أمام سواحل غزة تحت غطاء نقل المعونات الغذائية والدوائية إلى النازحين فى قطاع غزة.
المعلومات التى جرى الإفصاح عنها حول مذبحة «مخيم النصيرات» منها ما هو إسرائيلى وما هو أمريكى تؤكد أن المشاركة الأمريكية فى هذه المذبحة كانت أساسية حسب ما نقلته صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية صباح يوم الأحد الماضى (9/6/2024). فقد نقلت الصحيفة عن مسئولين كبار فى كل من واشنطن وتل أبيب قولهم إن «الولايات المتحدة والمملكة المتحدة زودتا إسرائيل بمعلومات قيمة جداً أسهمت إلى حد كبير فى نجاح عملية تحرير الرهائن». كما نقلت الصحيفة عن مسئول إسرائيلى وصفته بأنه «رفيع المستوى» أن وحدات أمريكية وبريطانية تعمل من داخل إسرائيل فى جمع المعلومات الاستخباراتية خاصة ما يتعلق بأماكن وجود «الرهائن الإسرائيليين» وأماكن وجود قادة حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى.
المشاركة الأمريكية، وربما البريطانية فى مذبحة «مخيم النصيرات» تجاوزت تجميع المعلومات الاستخباراتية إلى المشاركة المباشرة فى العملية، حسب تأكيدات لمسئولين أمريكيين، امتنعوا عن الكشف عن أسمائهم، أن فريقاً أمنياً عسكرياً أمريكياً اشترك مع القوات الإسرائيلية فى تحرير الرهائن الأربع الذين أمكن الوصول إليهم بعد معركة ضارية مع جماعات المقاومة التى كانت مسئولة عن حماية الموقع الذى يوجد فيه هؤلاء «الرهائن». اللافت، والمثير حقاً، فى المشاركة الأمريكية أنها لجأت إلى خديعة أهالى المخيم عبر شاحنة مساعدات أمريكية يقودها ويحميها أفراد الشرطة الإسرائيلية الخاصة من «المستعربين»، وبداخلها قوات كوماندوز أمريكيون وإسرائيليون الذين تمكنوا من تحرير أربع رهائن بعد معركة ضارية مع فريق الحراسة من المقاومة، لكنهم قتلوا رهائن آخرين وقتل منهم عدد كبير أبرزهم قائد عسكرى إسرائيلى ، لكن المجزرة وقعت عندما نجحت المقاومة فى إعطاب الشاحنة، وعندما منعها الأهالى الذين التفوا حولها من التحرك، وجاءت تعليمات للطائرات الإسرائيلية بقصف المخيم وإحراقه بأهله كى يتم إخراج الرهائن والهروب بهم إما عبر طائرات مروحية إسرائيلية أو عبر الرصيف البحرى الأمريكى العائم، وكانت المحصلة هى استشهاد 220 فلسطينيا معظمهم من الأطفال، وجرح مئات آخرين مقابل تحرير الرهائن الأربع.
هذه العملية، وغيرها الكثير، تؤكد، دون أدنى شك أن الحرب التى تجرى ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة منذ هجوم «طوفان الأقصى» هى بالأساس «حرب أمريكية» أكثر منها إسرائيلية. المؤشرات والدلائل على ذلك كثيرة أبرزها رد فعل الرئيس الأمريكى بايدن عن سماعه خبر تحرير هؤلاء الرهائن، وكان يقف فى باريس بجوار الرئيس الفرنسى ماكرون فقد أعرب بايدن عن «سعادته الغامرة» لتحرير الرهائن الأربع، وشدد على أنه «سيواصل العمل لإطلاق باقى الرهائن» ما يعنى أنه مستعد لتكرار المذابح والمحارق ضد الشعب الفلسطينى من أجل تحرير هؤلاء الرهائن، دون أدنى اعتبار أو اهتمام بمن يسقط قتلى من الفلسطينيين فى هذه المجازر. هذا الاستعداد لقتل الفلسطينيين أكده تعمد مصادر صاحبة مصلحة فى تسريب لقطات فيديو للرئيس الأمريكى تزامنت مع تصريحاته فى باريس جاء فيها قوله «لن نسمح بدخول أى نوع من المساعدات حتى يتم إطلاق سراح جميع مقاتلينا مهما كان الثمن. ولن نسمح أن يعترض أحد طريقنا».
هذا «التسريب» يكشف عن حقيقة مهمة وهى أن ما يجرى الحديث عنه من أن «إسرائيل فى ورطة لا تعرف كيف تخرج منها» بعد فشل حرب الإبادة على الشعب الفلسطينى على مدى ثمانية أشهر منذ «طوفان الأقصى»، هو فقط نصف الحقيقة، أما النصف الآخر فهو أن «الولايات المتحدة هى من فى عمق الورطة» منذ أن أثبت كيان الاحتلال الإسرائيلى عجزه عن حماية «أمنه الوطني» ودخوله مرحلة «التداعي» والتفكك، ما سيجعله مستقبلاً عاجزاً عن القيام بدوره الوظيفى الذى أسس من أجله وهو حماية المصالح الغربية عموماً، والأمريكية، على وجه التخصيص، فى إقليم الشرق الأوسط، وهذا معناه أن الولايات المتحدة أضحت مطالبة بمراجعة إستراتيجيتها العسكرية فى الشرق الأوسط التى تأسست على مقولة، يصفونها بأنها «خالدة» تقول إن «إسرائيل هى حاملة الطائرات الأمريكية التى لا تغرق أبداً».
الواقع الذى يؤكده كبار القادة العسكريين فى كيان الاحتلال نفسه أن حاملة الطائرات الأمريكية هذه «تغرق» وبغرقها ستجد الولايات المتحدة نفسها «عارية» دون ظهير قوى فى الشرق الأوسط، فى وقت كانت تعد فيه العدة، منذ أشهر قليلة فقط تلت نجاحها فى صفقة «السلام الإبراهيمي» مع دول عربية، لتأسيس ما سموه «حلف ناتو عربى» أى تحالف شرق أوسطى على غرار حلف شمال الأطلسى «الناتو» تقوده إسرائيل ويضم الدول العربية الحليفة وترعاه واشنطن ليتولى مسئولية «حماية الأمن الإقليمي» وبالتحديد المصالح الأمريكية والإسرائيلية، بفرض «إسرائيل» قوة إقليمية مهيمنة كبرى. ما حدث فى «طوفان الأقصى» أسقط هذا الافتراض. وإذا كان الإسرائيليون والأمريكيون ومعهم حلفاء عرب وأوروبيون قد أنهكوا أنفسهم فى وضع صياغات لما بعد انتهاء الحرب فى غزة أخذت اسم «اليوم التالى» أى اليوم التالى للانتصار الإسرائيلى الكامل والقضاء النهائى على حركة «حماس» فإن الورطة الراهنة ، كما تتأكد معالمها، تقول إن الولايات المتحدة أضحت مطالبة بالبحث فى «اليوم التالى للتداعى الإسرائيلي» والإجابة عن سؤال «ماذا بعد إسرائيل»؟.