قراءة في ديوان ( عمياء أحمل مصباحي )
للشاعرة السورية / بهيجة مصري ادلبي
كتب / حاتم عبد الهادى
تراوح الشاعرة السورية / بهيجة مصري ادلبي بين الظلام والنور ، بين العماء بظلامه ،ودلالات المصباح بنوره المتلألأ ، وفي ديوانها ( عمياء أحمل مصباحي ) تبدو المفارقة جلية من ثنائية الضدية والمقابلة المتبداة بين ( العماء )و( المصباح ) ؛ كما تبتدي الذات المشرقة باستخداماتها الناجعة للفعل ( أحمل ) الذي يفيد العزم والتصميم علي قهر الظلام والعماء السادر للولوج الي عالم الاشراق والنور ، ؛ حيث المصباح هو الدليل الأول للسطوع والشوف ، وهو المعادل الدال للنور ، أو البديل الناجز للعماء .
وتبدو شيفرة العنوان دالة ، تستصرخ المدي لتنتصر بالنور علي الظلمات ، لتدلل الي إن فقد النظر ليس معناه فقد الارادة ، وانطفاء شعلتها ، بل معناه العمل ، واللحاق بموكب البهاء ، فلربما كان المصباح هو ( العلم ) ؛ أو ( الشعر ) أو ( الارادة الداخلية لديها ) لتعادل الذات حالة العجز وانكساراته فتتساوق مع الفعل في ديمومة ( أحمل ) لتنير عينيها من جديد .
هذا وباستقراء عناوين القصائد نلمح خيطا رقيقا يجمع بينها ، بين الذات وارادة الفعل ، وبين المجتمع والكون والعالم والحياة ، فنشاهد قصائدها : (رؤيا ) تشق فضاء العماء ( عمياء ) ويجي ( دلوك الحلم ) ب (طيف ) و (خطرات ) سعيدة تارة ، وحزينة ومنكسرة تارات أخرى لنصل معها الي (سراديب العدم ) عبر (غياهب الرؤي ) وحروفها التي ينهشها الصقيع (حروفي تعرت ) أو عبر تكريث الرواسب للعماء (رواسب العماء ) فنراها تصلي ( أصلي خلف ظلي ) ، ( كما الظل ) ، لتصل الي ذاتها ( سر ذاتي ) ، وهي تنقش بذلك لوحة تميزها ( لوحة ) وتهدي قصائدها الي الشعر في (اوراق ) ؛ كما نراها هادرة سادرة في ( غاض الخيال ) أو تصف العالم ( خراب ) بقوانينة ( نواميس ) أو بقلقة ( حيرة ) وكل هذا الكلام تغايري ( من مغيب الكلام ) وتصنع تعويذتها ( تمائم ) لتحيلنا الي ذات منكسرة ، تتشرنق علي نفسها ، عبر لغة صوفية تارة ، وعبر احالات المفارقة تارة ، لتشرك القاريء في التخييل،تستدعي السيموطيقا لفك شيفرات الكون الميتافيزيقية، كما تعود الي الذات بفيزيائيتها التكوينية لتؤطر لنفسها مكانة سامقة في الشعرية العربية التي تعتمد الايقاع المتبدي من الصورة الجزئية ، ومن السياق التناغمي للجرس والموسيقا المنبعث من دفء صوت شعري يزعق في برية العالم ، يتلمس وجودة ، عبر العماء المجتمعي من خلال فتاة ، أو امراة تحمل مصباح الحلم الميتافيزيقي لتعبر بسيميائية اللغة ودوالها الي عالم اكثر اشراقا ونورا وبهجة مغايرة . كما تجيء دلالة الاهداء صادحة لتبين لنا الصورة والظل ، الشاعرة والشبيهة ، النور والظلام ، تقول : الي امراة /تشبهني اهدي مصباحي ( الديوان : ص 3 ) .
انها صوفية الشعر ، تحملها عبر شذرات تخفيها بين طياتها ..انها تبحث عن الذات ، عن الخلاص ، عن الثوب العفيف الذي يشف مع مرايا الأغنية ، تريد التوحد عبر اشراقات البوح ، تبحث عن السر ، وسر السر ، وداخل سر السر ، تبحث في ذاتها ، تخاطب الحزن والريح والصباحات لتدرك ماهية الذات / الأنا ، تقول في قصيدتها ( أصلي خلف ظلي ) .
أعطني ثوبا
ـ اذا شفت مرايا أغنياتي ـ
شف عني
كلما اسدلته أسدلت حزني
أعطني ماشئت فاض السر مني
وسعي الليل بعتم الريح
فاحتارت صباحاتي
وما أدركت أني . (الديوان : ص 40 )
وفي قصيدتها ( سر ذاتي ) نلمح اشراقات الصوفية ، عبر الذات ، والأسرار والخوافي والكوامن ، عبر الروح بظلالها ومرايها ، وعبر النهر الذي به أسرار الكون / سر الماء الذي يصبح سريرا ، والماء حبرا ودما لتبحث عن ذاتها وأسرارها السرية ، وروحها التي تتطلع الي البهاء والتوحد ، تقول :
سألت النهر
من أعطاك سري
وكيف عرفت
ما أخفت صفاتي ؟
وكيف سلبتني
من ظل روحي ؟
وبللت الرؤي بالذكريات
فقال : توسدي مائي قليلا
فملت اليه أطلق أغنياتي
شعرت الماء في روحي سريرا
وصار النهر يجري من دواتي
غمرت أصابعي بالماء حتي رأيت يدا
تصافح سر ذاتي ( الديوان : ص 44 )
ان العماء باتت يهدد مصباحها فكل شيء متشابه ، تتداخل الرؤي مع رواسب العماء والصدي مع الهواء ، وهذه التداخلية تحيلنا الي اختلال الرؤي ، وتصيبنا بالعماء الذي تحاول الفرار منه لالتعيد انتاجيته ، بل لتفر منه الي النور والهواء ، تقول : هي الرؤي / رواسب العماء / في العماء / ورحلة الصدي / مع الصدي / مع الهواء . ( الديوان : ص 37 ) .
حتي الشعر لم يسلم من العماء ، اذ مفتاح هو اليقين الذي يقبع خلف الرؤي ، وهو نوافذ الغيب وصلواتة ، تقول :
باب الشعر/ مفتاحه / عين العماء / وراء الرؤيا / الشعر نوافذ للغيب / صلوات تنهض في الدرب / كلمات تخلع معطفها / تتجلي في اليته العذب / ايقاع لرمال الرؤيا / وتمائم تنهض في القلب . ( الديوان : ص 58 ) .
ان لغتها فارقة ، لغة تحمل فلسفة عشق للذات والكون والاله الخالق الكامن خلف السر ، اذ هو سر الاسرار ، سر الذات وخوافيها ، السر المدرك والخفي ، المعلن والسري ، انها لغة خاصة ، لغة شاعرة تغزل من صوف الروح الدفء للعالم ، فهي مبصرة تريد النور للعالم ، فمصباحها مشكاة ، وبعينيها نور ، وبقلبها حب يتواشح ليسع الكون وما ورائياتة ، وما قبلياته ، ترتل البهاء عبر أسرار النور، وكواهن الخوافي لتزيل العماء عن العالم ، فهي المبصرة بعينها وذاتها وبقلبها، تنشد النور للانسان ، فاستحقت أن نطلق عليها ( رابعة العدويه الحداثية ) التي تعيد تشوير المنجز الشعري التراثي الصوفي بجمالياتة واشراقاته ، بتوحده وأسراه، بعالمه النوراني المشع من ذاتها المحبة للعالم .
ان الشاعرة / بهيجة مصري أدلبي هي شاعرة الاشراقات والتوحد ، شاعرة التصوف والفلسفة الكونية ، شاعرة تغزل بمسجة السيموطيقا ورد الحب ، عبر سيمياء تتشظي لتعيد تفتيت العماء ، ورواسبه العالقة بالذات والمجتمع والعالم ، تنظر من خلف أستار العتمة لتنير الظلام بمصباحها ، وحيدة تحمل النور للعالم والكون والحياة .