كتب / حاتم عبدالهادى السيد
لعلنا نشير من باب العلم العام، عبر الإجناسيات الجديدة التى يطورها الشعراء بمساعدة مصممى البرامج عبر الأنترنت، إلى ظهور الأدب الرقمى، والأدب التفاعلى، والشعر التشعبى وغير ذلك من مسميات ظهرت لإرتباطها بالحاسوب، وتقنيات الحداثة المعاصرة، والشبكة العنكبوتية ،وهو ذلك الأدب، الذى ارتبط باستخدام الكمبيوتر كأداة لإظهار الشعرية بشكل بصرى، وجعل من الصورة والروابط التشعبية حالة جديدة للشعرية العربية، وكأنه يصور جماليات القصيدة عبر ازاحة المعنى تجاه الصورة ، ليتشارك القارىء في التخييل عبر الصور واللوحات التشكلية التى تحيلنا إليها الأيقونات المرتبطة بالنص الإبداعى / القصيدة ، وهذا يشكل فضاءات لمخيال أكثر تعددية من المعنى المقصود، فمثلاً عندما يشير الشاعر إلى رابط يرفد لنا مصمم القصيدة/ مخرجها/ أيقونات يمكن أن نشاهد من خلالها العصفور الذى تحدث عنه الشاعر، أو نرى لوحة تشكيلية، أو يحيلنا إلى أغنية، أو إلى مقطع موسيقى وغير ذلك ، ثم يعود القارىء التشاركى ليكمل القراءة مع القصيدة والروابط، أو بدونها، وكأنه يضيف للنص قيمة إقتصادية جديدة، عبر تكاملية الفنون ، بل والعلوم كذلك، وتلك لعمرى إضافات قد تحدث نوعاً كبيراً من المتعة إلى جانب النص، لتضىء فضاءات، وتوسع من دائرة المخبال للقارىء ،وتحيلنا إلى حداثة مغايرة، وما بعد حداثة جديدة، لتقرأ وتشاهد وتستمع وتتأمل خلف ظاهر النص الشعرى، وروابطه المصاحبة ، وتلك لعمرى قيمة مضافة للشعرية / للنص الجديد ، ويعزى إلى تطور الحاسوب عبر الشبكة العنكبوتية إجناسية هذه القصائد الجديدة، الإدهاشية، والجميلة، والمفارقة لذا لزم التنوية لوجودها، ولوجود شريحة كبيرة من الشعراء قد انتهجوا تصميم تلك القصائد على الهيئة الجديدة، ولله في خلقه حكم، وللشعراء أحوال ، أدب مابعد كورونا .. العالم يتغير
يبدو أن العزلة هى أكثر الأشياء إمتاعاً فى عصرنا الحالى، وإذا كان واصل بن عطاء زعيم الإعتزاليين فى العالم قد اعتزل بحق، أو بدون، إلا أن العزلة يمكن أن تكون دافعاً لإيجاد أدب السكون، الصمت، أدب الهدوء، والولوج الى عالم الذات،عبر مجتمعات أصبحت العزلة فيها حصافة، والبعاد حكمة، والصمت بلاغة فوق البلاغة المعروفة .
ولعلنا فى زمن الفتنة الكبرى نلوذ بالصمت، بالجلوس فى المنازل ، بالإبتعاد عن مخالطة الكل : الأصدقاء، الأعداء، الأعدقاء، وتجىء كورونا لتفرض العزلة القصرية على العزلة الإختيارية التى يصنعها الكاتب أو الشاعر لنفسه، فهو ينفصل عن المجتمع – ظاهرياً – لكنه متواشج معه فى قضاياه، لكنه مع ذلك لا يشارك، يصمت، يتابع، وهو فى برجه العاجى الذى ابتناه ناشداً الهدوء، والإختلاء مع الذات.
إن أدب السكون، أو أدب الصمت، هو أدب عالمى معروف ، وهو وسيلة اتخذها بعض الأدباء والفلاسفة لإعادة الإعتبارية للذهنية، للذات التى تنشد الفضيلة، وتبحث عن اليقين والبرهان، فى زمن تفشت فيه أوبئة كبرى مثل : الكذب، الخداع، حب الذات، التعالى وغيرها من الأمراض والأوبئة الإجتماعية التى تطاول كورونا، فهى أكبر من الطاعون، والكوليرا وكورونا وغيرها .
نعود الى أدب الإعتزال، أدبياته وفوائده، فهو كالصمت فضيلة كبرى، وهو أحد أنواع النظر والتأمل فى الكون والعالم والحياة، وهو خرقة الصوفى، وبردة المحبين، وبلاغة الحكماء والفلاسفة.
ومن فوائد وأدبيات العزلة التوقف مع النفس ومحاسبتها، والوقوف الى موضع قدم للإنسان ، يقيم فيها ذاته، ويقوم ما اعوجّ فى حياته وسلوكياته، يحاسب نفسه، ويعيد برمجة عقله وسلوكياته المستقبلية، ويقيد ذاته ليكبح جماحها ، وليقرر مايريد ومالايريد، وما يلزم وما لا يلزم، ففى الصمت يلاغة السؤال، وقوة الإحتمال ، والركون الى الهدوء والصفاء النفسى المنشود.
ان الحياة فخ كبير، والعاقل من يهرب من الوقوع فى فخ الذات أولاً ، فإذا انتصر الإنسان على نفسه وهبت له الحياة ، وهى ارادة القوة المستمدة من قوة القوى العزيز، ولا ننسى أننا ظل الإله على الأرض، وقبس من روحه الطاهرة ، فإن شاء منح، وإن شاء أعطى، وإن شاء أخذ فله الأمر من قبل ومن بعد .
الأدب الرقمى الجديد
أدب المرض؛أدب الجائحة، أدب الكوارث،أدب العزلة ،أدب المنزل والبيت، مسميات جديدة أصطلحها لرصد الراهن الواقعى في العالم – الآن – وقد يبدو مصطلح “أدب السكون” جديداً على الذائقة الأدبية في مصر والعالم العربى،ولكنه موجود في الآداب العالمية،إلا أننا وجدناه هناك ينشد، ويدعو إلى تمرير الفحش،بينما سَيَنْصَبُّ أدب السكون في عالمنا العربى على تمكين الفضيلة واليقين والبرهان؛للوصول الى غائية أدب ما بعد حداثى عربى؛ جديد،ينشد الأصالة، ويستشرف المعاصرة،ويقدم كل ما هو جديد وتمايزى؛وتغايرى كذلك.ويبدو أدب السكون الذى أنتهجه هنا مرادفاً لأدب الصمت،وأعنى به :الأدب الجديد،الذى يسد الفجوة بين القديم وما بعد الحداثى،ويسعى كذلك الى ملْ الفراغات، والفجوات الناشئة عبر عصور الأدب،أو بمعنى آخر : هو الأدب الذى يعيد معمار الشعرية العربية بقصائد، وأعمال أدبية وفنية،تبتنى رهق وجودها من التراث الشعرى العربى،وتنشد اليقين والبرهان، والفضيلة التى تتربع على أقنوم القيم،ليتصدر ” التصوف الذاتى–كما أصطلح – عرش الإبداع الجديد ، عبرلغة أنيقة جداً،تتمكيج وتتعطر أمام القارى لتحدث المقصدية المنشودة لإنتاجية القصيدة الجديدة؛التى تأخذنا عبرالتراث الكونى،لتحيلنا الى المعاصر،والما بعد الحداثى،ولعمرى كما بدأ البارودى الثورة الجديدة للشعر؛وما ارتأيناه من مدارس؛وحركات عربية حداثية كجماعة أبولو،والديوان،والشعر الحر،التفعيلى ،وصولاً الى قصيدة النثر،وشعرية ما بعد الحداثة،كقصيدة المعنى، والتي أقول بها كذلك؛ فإن أدب الصمت والسكون يعدان -كما أحسب -مثالاً للفضيلة الشاعرة؛فضيلة الحداثة عبر قيمنا وواقعنا العربى؛المستمد ماهيته وهويته من تراث ولغة؛وثقافة أديان انسانية تدعو الى الحق والخير والجمال والحرية،مع مراعاه الذوق العام الذى ينبذ الفحش،ولا يمرره، ويستعين بالسكون والصمت،أو الحياء الشعرى -إذا جاز لنا هذا التعبير- للوصول الى شعرية تجديدية،ومخيال يستند الى تاريخانية تسقط البيولوجيا،والحتميات،والإيروتيكيا؛ أو تعبر بهما الى سبيل ” التَّطهَّر ” عبر سيكو دراما الشعرية العربية الجديدة.
إن العالم – ما بعد كورونا – قد أظهر سلوكيات وتحولات يجب رصدها،وقد ظهرت آثارها – حثيثاً- في الأعمال الشعرية والقصصية والروائية،التى أنتجها الأدباء؛بل وعبر المقالات التى استدعت وجوداً تثويرياً جديداً للماهية والهوية الأدبية وتحولاتها،فغدا الأدب الجديد يحتاج منها الى وقفة،لرصد تمظهرات أدب الجائحة،أو أدب المرض،لإحداث نقلة تنويرية–نوعية- للوعى عبر الواقع الاجتماعى ومعطياته،وعبر الواقع الانسانى وتعامله مع الظواهر والكوارث العالمية الكبرى،والأمراض الجديدة البيولوجية؛ولن نتحدث عن الحروب البيولوجية كذلك،وأراها فرصة جيدة للعودة بالإبداع العربى الى آفاق أكثرتجديدية؛عبر الشكل والمضمون؛لنجاوزهما الى المعنى؛وابداعات الكوارث التى حلت بالعالم أجمع في وقت واحد،وقد عزاها البعض الى غضب الإله ،أو كما أعلن رولان بارت موت المؤلف، من قبل،وأعلن كذلك مع غيره :”موت الإله”/ النص، وعزاها بعضهم الى أيدلوجيات سياسية ،واجتماعية ،وثقافية أيضاً …
إن أدبيات عالم ما بعد الحداثة؛ أو مابعد مدرسة فرانكفورت وتطبيقاتها يمكن أن ندرجه – كما أرى – فيما يسمى أدب مابعد عالم كورونا؛ وهو الأدب الجديد العالمى : أدب البيت؛ المنزل؛ الصمت؛ تعادلية الحياة من جديد؛ وهنا يمكن للمارد العربى النقدى أن يعود محملاً بتراث العرب النقدى؛ وموروثاتنا البلاغية لغزو رؤى ما بعد الفرانكفونية في الغرب؛ لتأسيس منحى جديد لأدب عربى عالمى ؛ مابعد كولونيالى؛ ومابعد هلاميات العصرنة والأمركة وعالم ماك؛ وصراع الحضارات والثقافات؛ وغير ذلك. حينئذ يمكن لنا ان ننادى بنظرية عربية للنقد والأدب تنتجها العزلة المستمدة من المتصوفة العرب؛ لا من عزلة كوفيد القسرية !! .
سنظل ننادى بعالمية الأدب في عالم مابعد كورونا ؛ وعلينا أن نستفيد بإسهامات نقادنا العرب في نظريات مابعد الحداثى كإدوارد سعيد؛ وإيهاب حسن؛ وأدونيس وغيرهم في التأسيس لنظرية عربية للأدب العربى المعاصر ؛ أو ما أسميه عالم مابعد كورونا الجديد .