د. بسام أبو عبد الله يكتب:الانتخابات المحلية التركية.. عقوبة اللعب على الحبال!
د. بسام أبو عبد الله يكتب:الانتخابات المحلية التركية.. عقوبة اللعب على الحبال!
أقفلت صناديق الاقتراع في الانتخابات المحلية التركية قبل أيام، وصدرت نتائجها التي كانت مفاجأة من العيار الثقيل، إذ اهتزت صورة الرئيس رجب طيب أردوغان كزعيم مطلق قادر على صنع الانتصارات الانتخابية منذ أكثر من 22 عاماً، وهو ما دفعه للقول في خطاب الشرفة التي كان يعلن منها انتصاراته السياسية أن الشعب يقول كلمته عبر الصندوق ويرسل إنذاره للسياسيين عبر الصندوق وهذا نجاح لديمقراطيتنا، كما حاول التخفيف من الخسارة المفاجئة لحزبه بالقول: إن الانتخابات المحلية ليست نهاية الطريق، لكنها نقطة تحول، وسوف نحلل نتائج الانتخابات البلدية وسنراجع أنفسنا عبر النقد البناء.
سأحاول في مقالي هذا البحث في عمق الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة للتعلم، والاستفادة من الدروس أكثر من الموضوع العاطفي الذي ذهب به البعض في كتاباته ليصور لنا الأمر، وكأنه انتصار حققناه، وليضعنا في أجواء احتفالية تذكرنا بمحاولة الانقلاب عام 2016 التي عاش فيها جمهورنا، ورأينا العام حالة تخديرية من دون دراسة عميقة، ولذلك سأحاول هنا تحليل الأسباب وأخذ الدروس والتعلم أكثر من إطلاق الأحكام والروايات البطولية عما حدث، وتأثير ذلك على سورية كمخرج نهائي.
1- خسر الحزب الحاكم البلديات الكبرى، وخاصة أنقرة العاصمة السياسية، واسطنبول العاصمة الاقتصادية، وهما اللتان زجّ أردوغان كل طاقاته للفوز بهما، لكنه أخفق في تحقيق أي إنجاز، ولهذا أسبابه سأشير إليها لاحقاً.
2- إن العوامل التي تحكم الانتخابات المحلية، أي البلدية، تختلف عن العوامل التي تحكم الانتخابات العامة مثل رئاسة الجمهورية أو الانتخابات البرلمانية، ذلك أن القضايا الاقتصادية والخدمية والمعيشية تحتل الأولوية على القضايا السياسية، لكنها تعطي من دون شك رسالة سياسية للحزب الحاكم حول مزاج الشارع والجمهور.
3- إذا أخذنا نتائج الحزب الحاكم على مستوى تركيا فإنه حصل على 35 بالمئة من الأصوات على الرغم من تراجع الأداء، والأخطاء التي ارتكبت، وملفات الفساد وغيرها، وأضفنا له ما حصل عليه حزب الحركة القومية الحليف الأساسي للحزب الحاكم 4 بالمئة، يصبح الإجمال 39 بالمئة، وإذا أخذنا حزب الرفاه الجديد 6 بالمئة، وحزب الاتحاد الكبير 1.5 بالمئة، يصبح الإجمالي 46.5 بالمئة للتحالف السابق، آخذين بالاعتبار أن المشاركة كانت حرة في الانتخابات المحلية ولم يكن هناك تحالفات كبرى كما كان الأمر في الانتخابات العامة التي سبقتها بعشرة أشهر فقط.
4- أما حزب الشعب الجمهوري المعارض فقد حصل على 37 بالمئة من الأصوات في عموم تركيا، إذا أضفنا له الاتجاه الذي مثلته الأحزاب الكردية 2 بالمئة، والحزب الجيد الذي سقط سقوطاً مريعاً مع أحزاب أحمد داوود أوغلو، وعلي بابا جان، وأوميت أوزداغ المتطرف اليميني المعادي للمهاجرين 1.5 بالمئة، ستصل هذه الأحزاب مجتمعة إلى 41 بالمئة تماماً.
5- صحيح أن هناك مؤشرات أخرى كثيرة يمكن أن يتحدث عنها البعض، لكن بالإجمال هؤلاء هم الذين تحالفوا مع بعضهم قبل عشرة أشهر، وانفضت تحالفاتهم في الانتخابات المحلية التي كما قلت أعلاه تختلف ظروف التكتيكات والعمل فيها أي انتخابات عامة أخرى.
6- كثيرون لم يشيروا إلى أن نحو 13 مليوناً وستمئة ألف ناخب لم يشاركوا في التصويت، والأغلبية من هؤلاء من قواعد الحزب الحاكم، الذين قالوا: إننا لن نصوت لحزب آخر، لكن نحذر الحزب الحاكم بهذه الرسالة العقابية، وقسم آخر من القاعدة الناخبة المحافظة ذهب نحو التصويت لحزب الرفاه الجديد بزعامة فاتح أربكان باعتباره حزباً إسلامياً محافظاً قريباً من حزب العدالة والتنمية الحاكم.
هذه نظرة عامة للنتائج، ولا أريد الدخول في التفاصيل التي يمكن الحديث عنها مطولاً، والأهم لماذا وقع ذلك خلال عشرة شهور فقط من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية؟ وحسب معلومات من أصدقاء لنا في تركيا، ومن متابعتنا لهذا الملف يمكنني أن أعدد الأسباب الكامنة وراء هذا التحول:
• ارتكاب حزب العدالة والتنمية الحاكم أخطاء بالنسبة للمرشحين، إذ اعتمد على قرارات قياداته من دون الرجوع لقواعد الحزب والاستئناس برأيها، وترشيح من يحظى بثقة الناس، واحترامهم، ما أدى إلى هذه الانتكاسة الكبيرة، أي إن إهمال رأي القواعد ورضاها سيكون ذا نتائج سلبية، وطبعاً يعزى هذا الأمر لتعقد شبكات الفساد والاستعلاء على رأي الناس، وتطبيق شعار: المصالح أولاً.
• لعب العامل الاقتصادي دوراً مهماً جداً، فالبعض سَمَّى هذه الانتخابات المحلية بـ«انتخابات المتقاعدين» الذين أهملتهم الحكومة والحزب الحاكم، ويبلغ عددهم نحو تسعة ملايين على مستوى تركيا، وهؤلاء لم تتم زيادة رواتبهم سوى بنسب بسيطة جداً 10 بالمئة فقط، في حين أن زيادات رواتب الموظفين كانت تصل لـ50 بالمئة، وحده حزب الرفاه الجديد رفع ضمن برنامجه زيادة رواتب هؤلاء، ودافع عن مصالحهم فكسب أصواتهم.
بالطبع إضافة لتدهور سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، مع تضخم مفرط وصل إلى 68.5 بالمئة وفقاً لآخر الإحصاءات الرسمية، ولم تتمكن الحكومة التي قدمت وعوداً كبيرة قبل عشرة أشهر من تحسين واقع الناس أبداً، ما أدى إلى هذا التصويت العقابي، والتحذيري.
هناك شرائح أخرى غير الشرائح الشعبية تضررت من سياسات الحكومة التركية بزعامة أردوغان منها التجار وأصحاب المصالح الاقتصادية الذين وقعوا ضحية موافقة أردوغان على الشروط الأميركية لتطبيق العقوبات على روسيا بعد اتفاق «فيدان- كالين» في واشنطن، حيث تم تجميد حسابات مئات الشركات في بنك «إملاك فيه ياتريم- الأملاك والاستثمار» الذي وضعته واشنطن تحت العقوبات، وطلبت جرداً كاملاً للحسابات وأسماء الشركات، وكأن تركيا دولة تابعة صغيرة من دون أن تدافع الحكومة عن مصالح هؤلاء المواطنين الأتراك، وبدت عاجزة، وفاقدة للسيادة الوطنية، وبالمناسبة أدى هذا الإجراء بخسارة تجار أتراك وهم من مؤيدي الحزب الحاكم لمصالحهم مع روسيا بسبب ذلك، وللعلم فإن أكثر من 60 شركة تركية تستفيد من التجارة مع روسيا، و70 شركة تستفيد من التجارة مع إيران، و180 شركة تستفيد من التجارة مع الصين، وبالتالي فإن خضوع الحكومة التركية للطلبات الأميركية سيؤدي لتضرر فئات واسعة، وبالطبع سيصوت هؤلاء ضدهم في الانتخابات.
• النفاق السياسي: أي المواقف العامة للحكومة التركية تجاه أميركا وإسرائيل، والإبادة الجماعية في غزة، إذ أخذ هذا الموضوع اهتماماً في مناطق عديدة في تركيا، وخاصة أن قضية فلسطين مهمة وحساسة للكثيرين في تركيا، وبالذات للعرب، إذ ظهر ذلك في مدينة أورفا ذات الأغلبية العربية، إذ صوتت قبل عشرة أشهر بـ80 بالمئة لصالح الحزب الحاكم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، في حين انقلبت ضده في الانتخابات المحلية وصوتت لمرشح حزب الشعب الجمهوري، ذلك أن كثيرين انتقدوا النفاق السياسي بالوقوف مع غزة بالتصريحات، وبتزويد إسرائيل بالغذاء والحديد، والأسلاك الشائكة، والألبسة العسكرية، وواقيات الرصاص، من أجل مصالح شركات قريبة من أردوغان وحزبه، وهذا الأمر أصبح فضيحة على مستوى تركيا لا يمكن إخفاؤها، في حين حصد فاتح أربكان أصوات هؤلاء عندما أعلى صوته من أجل غزة، أي إن المبادئ مهمة للناس، واهتمام أردوغان وحزبه بالمصالح الاقتصادية على حساب المبادئ التي كان يعلنها أسقطه في العديد من المدن، ذلك أن البعض يرى أن الحياة موقف أخلاقي أيضاً، إذ لا يجوز إغماض العين عن الإبادة في غزة من أجل مصالح اقتصادية ضيقة، كما أن هذه المصالح سوف تدفعك في مكان آخر مع أميركا وغيرها للتراجع أكثر فأكثر.
• مقابل هذه الصورة لأخطاء الحزب الحاكم، فإن مرشح حزب الشعب الجمهوري لطفي سواش في لواء اسكندرون خسر أيضاً بفارق بسيط عن مرشح حزب العدالة والتنمية محمد أونتورك، وكان ذلك عقاباً أيضاً على جملة مسائل مهمة:
– ابتعاده عن الناس خلال فترة كارثة الزلزال.
– دفاعه عن متعهدي البناء الذين بنوا أبنية تصدعت بسبب الفساد، وسوء التنفيذ، كي لا يذكر أحد اسمه في محاضر التحقيق، لأنه شريكهم في الفساد.
– تعاطيه مع أصوات الناس وكأنها تحصيل حاصل، وبدلاً من تمثيلهم في الإدارات والمواقع كان يدير ظهره لهم بعد كل دورة انتخابية، علماً بأنه فاز في دورتين سابقتين.
– الحقيقة أن لواء اسكندرون ومدنه كانت معقلاً تاريخياً لليسار، وحزب الشعب الجمهوري، وخسارة الحزب معقله هناك درس مهم لكيفية اختيار الأشخاص، وعدم تجاوز رأي الناس، صحيح أنه خسر بفارق بسيط، لكنها أيضاً خسارة مدوية لها أسبابها.
• وقوع أردوغان وحزبه في حفرة أصحاب الطرق الدينية، إذ اعتقد أن ولاء هؤلاء له دائم ومطلق باعتباره سلطاناً كما يرى نفسه، ليكتشف أن شيخ الطريقة المنزلية مثلاً في مدينة آضي يمان، صوت أتباعه لمصلحة حزب الشعب الجمهوري بنسبة عالية على الرغم من أنهم أعطوه 80 بالمئة قبل عشرة أشهر، أي لا أحد في الجيب كما اعتقد أردوغان الذي عزز دور هؤلاء لملء فراغ حركة فتح اللـه غولن بعد الصدام معه الذي تفجر عام 2016.
ما من شك أن دروساً كثيرة يمكن تعلمها وقراءتها للاستفادة منها، لكن البعض الذي اعتقد أن فوز المعارضة هو نصر لنا مخطئ في تقديراته، إذ كيف يمكن أن نكون في المكان نفسه مع وزير خارجية الكيان الصهيوني الذي لم يُخفِ فرحته عندما غرد على منصة إكس: «الانتخابات المحلية في تركيا أسفرت عن هزيمة مرشحي أردوغان، تهانينا لأكرم إمام أوغلو في اسطنبول، ولمنصور يافاش في أنقرة. هذه رسالة واضحة لأردوغان مفادها: مهاجمة إسرائيل لم تعد مجدية، وعليه العثور على أدوات جديدة».
أردوغان خسر ثقة أميركا وإسرائيل، والأهم ثقة شعبه، وهم يبحثون عن أحصنة أخرى ويرمون القديمة، والخلاصة: إن قوة أي زعيم بشعبه، وتحقيق مصالحه، والتزامه بالمبادئ التي يؤمن بها، بعيداً عن الرقص على الحبال التي اعتاد عليها أردوغان وحزبه.