بمناسبة موت كيسنجر..
بمناسبة موت كيسنجر..
لماذا كل هذا الافتتان بسياسيي أمريكا والغرب.
****
رحل قبل أيام وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، عن عمر جاوز المئة عام، عاصر خلالها مراحل العصر الذهبي لأمريكا، منذ تبوؤها قيادة المنظومة الرأسمالية بديلاً عن بريطانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تحولها كقطب وحيد في العالم، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لكنه شاهد قبل أن يموت، دخول أمريكا مرحلة الأفول والتراجع، التي تنبئ بانتهاء دورها كقطب وحيد يقود العالم، إلى عالم تكون فيه مجرد قطب من عدة أقطاب، ودخولها مرحلة – يتوقعها حتى الأمريكيون – بالتفكك والانتهاء كإمبراطورية عظمى، على طريقة انتهاء الإمبراطورية الرومانية، بدون أن يكون لها وريث من داخلها، بالطريقة التي ورثت فيها روسيا الاتحاد السوفييتي.
ما يلفت النظر، هو الهالة الكبيرة التي وضعت حول كيسنجر، وتوصيفه كسياسي من طراز فريد ونادر، ولقب بثعلب السياسة الأمريكية، وهي الهالة التي نراها توضع على نماذج معينة من السياسيين الأمريكيين، أمثال “زبيغيو بريجنسكي” مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، بين عامي 1977-1981.
ما يميز هذه الطريقة، في صنع مثل هذه الشخصيات، أنها تستلب من المتابعين والرأي العام، القدرة على التساؤل عن مدى صوابية السياسات التي نظّر لها هؤلاء، وعن مدى قدرتهم على استشراف المستقبل، والقراءة الاستراتيجية لمسارات الأحداث واحتمالاتها، وبناء السياسة والمواقف، وحتى خوض الحروب والصراعات، بناء على هذه القراءة، وليس المهم هنا أن تبدأ مساراً، تحقق فيه بعض النجاحات في بداية الطريق، لكنه ينتهي بكارثة.
السياسات التي نظّر لها كيسنجر وبريجنسكي، قامت على سياسة الاحتواء والقوة، وخوض الحروب الاستباقية، لمنع الخصوم من الوصول إلى تهديد مكانة الولايات المتحدة الأمريكية.
وهي السياسة نفسها، التي تم انتهاجها في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، وكان محورها دعم الكيا.ن الص. هيو. ني، لانتهاج نفس السياسات الأمريكية على المستوى الإقليمي.
وهذا يدعو إلى التساؤل، عن أي نجاح وأي عبقرية، في سياسات أوصلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى مرحلة على أبواب السقوط والتفكك، والكيا.ن الص.هيو.ني إلى مرحلة الاقتلاع من كل المنطقة.
فكيسنجر ينسب له أن أهم نجاح في سياساته، كانت في تبنيه لسياسة الانفتاح الأمريكي على الصين، أيام الرئيس نيكسون، وهذه السياسة كانت تستهدف محاصرة الاتحاد السوفييتي، ومنع إقامة تحالف سوفييتي صيني، أكثر مما كانت تعبر عن محبة للصين.
لكن لا أحد يتحدث بأن نجاح كيسنجر في الصين، لم يكن بسبب ذكائه، بقدر ما كان لحاجة صينية، ولذكاء قيادتها، عندما كانت في بداية مرحلة النمو، والتحول من بلد نامٍ كبير – كما يحلو للصينيين أن يوصفوا بلادهم – إلى دولة عظمى، تقف اليوم على أبواب إزاحة أمريكا (كسينجر وبريجنسكي) عن عرش قيادة السياسات والاقتصاديات العالمية وهذه السياسة، وكانت تحتاج إلى الهدوء والبناء الداخلي، والابتعاد عن الصراعات، وتحديدا مع الولايات المتحدة الأمريكية.
كما ينسب له نجاحه في احتواء نتائج حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، على الجبهتين السورية المصرية، وتفريغها من محتواها، عبر اتفاقات كامب ديفيد، التي أحدثت تحولا كبيرا في توازنات المنطقة، لصالح الكيان الصهيوني، عبر إخراج مصر من معادلة الصراع العربي – الصهيوني، ومنعها من استمرار دورها كقوة إقليمية كبرى.
لكن لا أحد يتحدث، أن نجاح كيسنجر في هذا الموضوع، اعتمد على محدودية أنور السادات، وافتقاره للشخصية القيادية، وللفكر الاستراتيجي، أكثر مما هو لذكاء كيسنجر، والدليل أن كيسنجر، فشل مع حافظ الأسد، لأنه من نمط آخر من القادة، مختلف عن السادات، إلى الدرجة التي قال فيها كيسنجر، أن الدرس الأول في قضايا الشرق الأوسط، تعلمه من الرئيس الأسد.
أما بريجنسكي، فسأكتفي في إبراز أهم الآراء والأفكار والنظريات التي تبناها، وروج لها، وأترك للقارئ الحكم عليها، بعد التطورات ومضي الوقت الذي يسمح بالحكم عليها:
** قوة الولايات المتحدة في الخارج، مهمة لاستقرار العالم.
** لا يجوز للولايات المتحدة، أن تسمح لأي دولة أخرى، بأن تصبح القوة المهيمنة في أوروبا وآسيا.
** رفض الاعتراف بالصين قوة عالمية عظمى، وإنما هي مجرد قوة إقليمية، وأن اليابان هي التي تتمتع بمكان القوة العالمية العظمى.
** روج للنظرية الأوراسية، وإنما من باب تطويق روسيا والصين، بسلسلة من المشاكل والحروب والأعداء.
** تولى ملف إيران خلال رئاسة كارتر، وكان وراء قرار تحرير موظفي السفارة الأمريكية في طهران بالقوة، وهي العملية التي كانت من أفشل المهمات الأمريكية في الخارج.
** ساهم في ظاهرة إطلاق المجا.هد.ين، والقتال باسم الدين الإسلامي في أفغانستان، لمواجهة الاحتلال السوفياتي.
بإمكاننا أن نضيف هنا مثال آخر، من خارج دارة الانتماء اليهو.د.ي للساسة والمنظرين الأمريكيين، وهو “فرانسيس فوكوياما” صاحب نظرية “نهاية التاريخ” التي روج الإعلام الغربي، لها وكأنها رسالة سماوية، التي قال فيها بأن النموذج الرأسمالي، هو النهائي في تطور النظم السياسية، والوحيد القادر على قيادة العالم، وأن هذا النموذج سيسود العالم، عبر زعامة أمريكا، وانفرادتها في قيادته، لكن لم يطل الزمن بفوكوياما، سوى سنوات قليلة، حتى رأى بأم عينيه، النظام الرأسمالي وهو يقف على بوابة الانهيار، كما حال الشيوعية.
وبعد هذه التطورات الكبيرة، التي يشهدها العالم اليوم، وأبرز معالمها، التحول من مرحلة القطب الأمريكي الواحد، إلى العالم متعدد الأقطاب، وانتقال مركز الثقل العالمي، من ضفتي الأطلسي، إلى المنطقة الأوراسية، نستطيع تأكيد الفشل الذريع للسياسات الأمريكية، التي نظر لها أمثال كيسنجر وبريجنسكي وفوكوياما.
وللمقارنة، سأورد مثالين من الساسة، من خارج المنظومة الغربية، الذين أثبتوا أنهم يمتلكون من الذكاء والدهاء والعبقرية، أكثر مما لدى كيسنجر وبريجنسكي مجتمعين، الأول هو المرحوم وليد المعلم، وزير الخارجية السوري السابق، الذي اشتهر، بالإصبع التي رفعها في وجه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، وما قاله له وللمجتمعين، في جنيف حول سورية، في أوج العدوان عليها، يوم لم يكن أحد يجرؤ، حتى على الهمس في الحضور الأمريكي، وما قاله عن شطب أوربا من خارطة الاهتمام، في اختراق عبقري لقراءة مسارات الأحداث، والتنبؤ بتراجع دور أوربا حتى التلاشي، يوم لم يكن أحد يتحدث عن ذلك.
المثال الثاني المنظر الروسي “الكسندر دوغين” الذي يعتبر عقل بوتين، وروج إلى نفس النظرية الأوراسية، التي استحوذت على اهتمام بريجنسكي، ولكن من باب التعاون المشترك بين دول المنطقة، وليس الاحتواء والحروب، لمنع تطور الدول فيها التي روج لها بريجنسكي.
مشكلة المعلم ودوغين، انهما لاينتميان إلى المنظومة الأمريكية الغربية، والا لكانا نالا من الاهتمام والدعاية، أكثر مما ناله وكيسنجر وبريجنسكي وغيرهما.
الجواب على كل ذلك يقول، إن صنع هذه الشخصيات والترويج لها، وإضفاء هذه الهالات عليها، ليست أكثر من بروبوغندا إعلامية، يقوم بها الإعلام الصهيوني، المسيطر على الساحة العالمية، والقادرة على صنع الشخصيات والترويج لها، مثله في ذلك، مثل هوليود وجائزة نوبل، وطريقة صنع النجوم، وعلينا نحن ان لا ننجر وراء محاولات اضفاء هذه الهالات المصطنعة، على هذه الشخصيات.
***
نشر المقال في صحيفة لا اليمنية.