صدام الحضارات في فلسطين و”طوفان الأقصى” يصوغان النظام العالمي الجديد
صدام الحضارات في فلسطين و”طوفان الأقصى” يصوغان النظام العالمي الجديد
سماهر عبدو الخطيب
الحرب ستطول والاصطفافات تحددت والشعوب قالت كلمتها، ولن يوقف هذه الحرب سوى فلسطين التي أثبتت أنها قلب العالم، وإليها تتجه كل بوصلة.
شكّل تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر مفصلاً تاريخياً في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، وبات ما بعده ليس كما قبله، ولا نبالغ إن قلنا بأن هذا التاريخ سيكون مفصلياً على صعيد الصراع العالمي، وتحديداً في ما يتعلق بصدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي الجديد بعد أن تم تجاوز قانون “الامتناع” و “الوساطة المشتركة” و “العوامل المشتركة”.
هذه القوانين الثلاثة التي تحدث عنها صامويل هنتنجتون في صدام الحضارات، معتبراً أن قبولها يجنّب حروباً رئيسية بين الحضارات ويضع حداً للصدام بين الحضارات، وبأنّ بعض الدول سيجد صعوبة في قبولها وتحديداً الولايات المتحدة.
وبالفعل، وجدت الولايات المتحدة صعوبة في قبولها فلم تمتنع عن إثارة الصراعات وتغذيتها، ولم تقبل بالوساطة المشتركة من قبل روسيا وغيرها لإنهاء الصراع، ولم تبحث عن العوامل المشتركة بين الحضارات لتكون أساساً يبنى عليه السلام والأمن الدوليان.
وما حصل بعد سنوات من نظرية هنتنجتون هو دخول دول المركز في صراعات داخل الحضارات، والتخلي عن قانون الوساطة المشتركة، وكذلك التخلي عن قانون الامتناع وعدم قبول التفاوض بين دول المركز مع بعضها البعض لاحتواء أو إيقاف حروب التقسيم الحضاري بين دول أو جماعات داخل حضاراتها، إضافة إلى التخلي عن قانون العوامل المشتركة وعدم البحث عن تلك القيم والممارسات المشتركة بين شعوب جميع الحضارات وتوسيع تلك المشتركات والتعنت الأميركي – الغربي بفرض أفكاره وقيمه وممارساته على شعوب الحضارات الأخرى.
هذا ما جعل المتطلب الأول للحضارة والمتمثل في “القانون والنظام” ينهار أمام هذا الصدام، وبات العنوان الأساسي لمرحلة ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر هو “صدام الحضارات“، والذي حكماً سيرسم نظاماً عالمياً جديداً يقوم على “الحضارات – الأقطاب” وهي ست حضارات وفق ما صنفها الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين (الصين +تايوان مع أقمارها الصناعية، روسيا كوحدة متكاملة للفضاء الأوراسي بأكمله، الهند ومنطقة نفوذها، أميركا اللاتينية مع قلبها البرازيل + الأرجنتين، أفريقيا جنوب أفريقيا + إثيوبيا، مع مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغيرها، المحررة من النفوذ الاستعماري الفرنسي، العالم الإسلامي في كلا الإصدارين – إيران الشيعية والسعودية السنية)، مقابل “حضارة غربية تضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان”.
وبات واضحاً أن الحضارة الغربية لا تنعم بالمتطلب الأول المتمثّل في “القانون والنظام” باعتبارها تتعامل مع الحضارات الأخرى بمبدأ “العبد والسيد”، وصاغت نظاماً أرادت فرضه على العالم أجمع متجاهلة وجود حضارات أخرى لها قانونها ونظامها، وبالتالي ثقافتها وتاريخها وإرثها وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها وتنظيمها العسكري والسياسي والاقتصادي الذي يشكل قوة حضارية تنصهر فيها مكونات الهوية الثقافية والدينية والاقتصادية والسياسية لتشكل كلاً متكاملاً لخصوصية كل حضارة عن الأخرى.
واعتقدت الحضارة الغربية أنها حضارة فريدة، وبأنها المصدر الفريد لأفكار الحرية الفردية والديمقراطية السياسية وحكم القانون وحقوق الإنسان والحرية الثقافية، وبأنّ الأفكار الغربية هي التي صاغت الحريات وليس الأفكار الآسيوية ولا الأفريقية ولا اللاتينية ولا العربية ولا الروسية، وفي أوج ما تسعى إليه الحضارة الغربية للهيمنة العالمية، وتظهير دورها في حماية الحريات الفردية معنونة بالليبرالية الحديثة والقائلة بقبول الشواذ الجنسي والشواذ تجاه الأطفال ولجوئها إلى فرض تلك الأفكار عبر التعميم والإلزام في تطبيقها بحجج إنسانية وحقوقية بدأت بالتدهور تنازلياً، وتحققت رؤية هنتنجتون في عودة الحضارات التي وجدت في الحضارة الغربية الوجه اللاأخلاقي الذي يسعى لإلغاء وطمس أي وجه حضاري آخر من الحضارات الست السابق ذكرها أو غيرها.
وهنا، تأتي أهمية تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر وعملية “طوفان الأقصى” لكونه يعدّ لحظة انفجار فوهة البركان الخامد في وجه تلك الحضارة الغربية، واتضحت الاصطفافات للحضارات الست ضدّ الغربية – الأميركية، وانكشف أمام العالم أجمع بما فيه من حضارات زيف وكذب تلك الحضارة القائلة بحقوق الإنسان والحريات فكانت “إسرائيل” (القشّة التي قسمت ظهر البعير) لتلك الأفكار الغربية التي جنّدت كل إمكانياتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والتكنولوجية لدعم “إسرائيل” ومساندتها اللامحدودة ضدّ المدنيين في فلسطين، وغضّت الطرف عن جرائم الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين فناقضت نفسها وناقضت ما صاغته من مبادئ وقوانين دولية.
وهنا، لن تكون نهاية “إسرائيل” اقتربت فحسب، بل نهايتها مع نهاية الحضارة الغربية التي أنشأت وخلقت “إسرائيل” من العدم لتكون درّة ابتكاراتها اللاإنسانية ودرّة ابتكاراتها العنصرية والإرهابية متمثّلة بآلة قتل وحشية في المنطقة الشرق أوسطية لتحقيق مآرب وأهداف بعيدة كل البعد عن ما تنادي به تلك الدول الغربية من شعارات حقوقية وإنسانية، ولم تعد تنطلي أكاذيبهم حتى على شعوبهم الذين ملأوا الشوارع والساحات العالمية مطالبين بحقوق الشعب الفلسطيني ليتضح جليّاً أن كل ما قامت به الحضارة الغربية – الأميركية منذ نشأتها هو طمس الحضارات الأخرى وإبادة الأفكار الأخرى والتطهير العرقي لـ”السود” أينما كانوا على هذه الأرض نصرة لـ”البيض” في جرائم موصوفة وتامة الأركان، في مسعى لسرقة التاريخ الحضاري بأكاذيبهم ورواياتهم وأساليبهم اللاإنسانية.
وبالتالي، سقطت تلك الحضارة الغربية وتهاوى منظّروها أمام هذا الطوفان كما سقطت المستعمرات الإسرائيلية وتهاوت “إسرائيل” أمام طوفان المقاومة الفلسطينية، وبات الغرب أجمع مع “إسرائيل” أمام مأزق عالمي، بل وقعوا في شرّ أعمالهم وعلقوا في مستنقع اللاعودة، وكان حضور الرئيس الأميركي جو بايدن إلى “إسرائيل” وما سبقه من تحريك للأسطول الأميركي وحاملات الطائرات الأميركية والبريطانية وبيانات الدعم اللامحدود من ألمانيا وفرنسا وغيرها تأكيداً لهذا الاصطفاف الانتحاري في وجه اصطفافات الحضارات الأخرى التي تمتلك القوانين الثلاثة التي تحدّث عنها هنتنجتون، وأهمها العوامل المشتركة بين الحضارات والتواصل الثقافي فيما بينها، وأهم عامل بين تلك الحضارات رفضها تطبيق الفردية المطلقة المتمثلة بالمثلية الجنسية والتزامها بالعائلة كأساس للمجتمعات.
والعامل الآخر الذي طغى كعامل مشترك هو وقوفها مع الحق الفلسطيني في أرضه، وكان رفض الولايات المتحدة والغرب الأوروبي للوساطة المشتركة التي تقدّمت بها روسيا والبرازيل في مجلس الأمن لحماية المدنيين وإعلان دولة فلسطين هو ما وضع الغرب في كفة الميزان الخاسر في صدام الحضارات، وجعلها في “مزبلة” التاريخ لكون هذه الحضارة الغربية كشفت عن “أنيابها” الدموية، وباتت أفلام هوليوود التي تحاكي “آكلي لحوم البشر” الصورة الحقيقية للحضارة الغربية، وحكماً “إسرائيل” ربيبة تلك الحضارة..
وبالتالي، كل ما نشأ عن تلك الحضارة من مبادئ دولية ستسقط كما ستسقط معها “منظمة الأمم المتحدة” والتاريخ يشهد مراحل صاغها ووضعها المنتصر.. ورأينا الاصطفافات واضحة تجاه هذه القضية وتنصل الدول العربية من أوامر الولايات المتحدة ورفضها الانصياع لها متجاهلة حق أهل الأرض وأصحاب القضية.
واليوم، وفي خضم تصاعد الطوفان ودخول جبهات جديدة وساحات جديدة من سوريا إلى العراق فاليمن وإيران وما رأيناه من رسائل عسكرية فإنّه ليس من المستبعد أن يتطور إلى حرب إقليمية وستكون المباغتة والمفاجأة عناصر أساسية في هذه الحرب، حيث لن تتوقع “إسرائيل” والقواعد الأميركية أي جبهة ستكون التالية وتضغط على الزناد، وبالتالي بنك أهداف المقاومة محدد والمهام محددة لدى جميع الجبهات في غرفة مشتركة بالتنسيق والتكامل مع قوى المقاومة، وربما نشهد حرباً عالمية وهي الوصف الأدق لما ستتطور إليه الأمور، فالحضارات الخمس الأخرى اليوم تصطف بجانب الحضارة “الإسلامية” كما صنفها “دوغين” في هذا الطوفان في مواجهة الغربية التي أعلنت هذه الحرب العالمية مع إعلانها الدعم المالي والعسكري اللامحدود لـ”إسرائيل”، وعلى لسان مدير البيت الأبيض بأنه صهيوني ووزير خارجيته بأنه يهودي دليل على كونها حرب حضارات وحرباً دينية ربما..
وبالتالي، الحرب ستطول والاصطفافات تحددت والشعوب قالت كلمتها، ولن يوقف هذه الحرب سوى فلسطين التي أثبتت أنها قلب العالم، وإليها تتجه كل بوصلة ومع إعلان دولة فلسطين وإعادة الحق لأهله في فلسطين فحينها يمكننا القول بأنّ الحرب انتهت، وإلى ذاك الحين سيبقى الصراع وسيكون الطوفان الذي أفشل قدرة “إسرائيل” العسكرية والاستخبارية نموذجاً يحتذى في كل عملية، وما تقول عنه “إسرائيل” بالتوغل البري سيكون إعلاناً لنعيها ونعي راعيتها الأميركية في المنطقة، وستبدأ معه العودة العكسية ومعها العودة الأفقية للجنود الأميركية في حرب المشرق العظمى التي بدأت من أرض الميعاد في بلاد الشام العظيمة، ولطالما كان الصراع العربي هو البداية لكل نظام عالمي جديد ومنه ستكون النهاية.. وإنّ وعد الله كان مفعولاً.