المفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي يكتب: الذين ضل سعيهم في الدنيا
لقد أودع الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم أسرار السعادة والرحمة والسلام وجعل فيه منهاجا واضحا للحياة ينير للإنسان طريقه نحو الحق والهدى ويهديه إلى صراط مستقيم فالقرآن ليس كتاب تلاوة فحسب بل هو دستور حياة ومنهج تفكير ودعوة للعقل أن يتدبر ويستنبط ويعمل الفكر ليصل إلى الحقيقة قال تعالى (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) ص 29).
غير أن أكثر الناس أعرضوا عن هذا الكتاب العظيم فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير واتخذوا من كلام البشر شرعة ومنهاجا ونسوا أن الله قد وضع لهم في كتابه خارطة طريق واضحة لا لبس فيها، بين فيها طريق الهدى وطريق الضلال بآيتين قاطعتين «فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى» طه 123. و «ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى». طه 124
هاتان الآيتان تختصران فلسفة الحياة كلها فاتباع هدى الله هو الطريق إلى الطمأنينة والسعادة والنجاة والإعراض عن ذكر الله هو طريق الضيق والاضطراب والشقاء في الدنيا والآخرة ومع ذلك كم من الناس يظنون أنهم على صراط مستقيم وهم في الحقيقة قد انحرفوا عنه حين جعلوا الدين شعارات لا سلوك ومظاهر لا جوهر وطقوسًا لا قيما.
.
لقد حذر الله تعالى من هذا الضلال الفكري والعقائدي حين قال قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزئا الكهف 103 – 105 إنها آيات تصف واقعا مأساويا حين يتحول الدين إلى مجرد ادعاء والعبادة إلى عادة ويستبدل نور القرآن بظلمات الفرق والاختلاف كل يدعي امتلاك الحقيقة وكل يرى أن نجاته حكر عليه وحده.
ولقد نبه القرآن إلى خطر هذا التفرق منذ اللحظة الأولى فقال تعالى (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون). الأنعام 159.
فهذا التفرق الذي نراه اليوم في طوائف وأحزاب وجماعات كل منها يرفع راية الإسلام الحق هو في حقيقته بعد عن جوهر الرسالة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم رسالة التوحيد والعدل والرحمة فالرسول جاء ليجمع الناس على كلمة سواء لا ليفرقهم قال تعالى «واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا» آل عمران 103.
لكن الأمة أعرضت عن هذا الأمر وذهبت كل طائفة تتبع شيخها أو مذهبها ونسيت أن الحبل الذي أمرهم الله بالاعتصام به هو القرآن الكريم نفسه لا الروايات ولا الشعارات.
.
وقد سجل القرآن على لسان الرسول الكريم شكواه لربه من هذا الهجر فقال تعالى (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان 30. تلك الشكوى ليست حصرا على قومه الذين عاشوا معه بل هي ممتدة إلى كل من أعرض عن القرآن وتركه وراء ظهره فلم يتدبره ولم يعمل به ولم يجعله مصدر تشريعه الأول.
فالهجر ليس فقط في القراءة بل في التعطيل وفي استبدال أحكام الله بآراء الرجال وفي ترك مقاصد الرحمة والعدل الصالح الغلو والتعصب إن الله سبحانه وتعالى قد جعل في كتابه تبيانا لكل شيء كما قال (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل 89.
فمن أراد الهداية وجدها فيه ومن أراد الضلال اتبع أهواءه ثم زعم أنه على الحق وقد قال تعالى في التحذير من اتباع الأهواء (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) المائدة 48. لكن كثيرا من الناس اتبعوا الأهواء والروايات والآراء الموروثة فساروا أسرى الفكر المذهبي وغاب عنهم نور الوحي.
.
إن من مظاهر ضلال السعي في الدنيا أن يظن المرء أنه يعبد الله بينما هو في الواقع يعبد فكره أو جماعته أو زعيمه يظن أنه ينصر الدين بينما هو يهدم مقاصده يرفع شعار الحق لكنه يغفل أن الحق كله في القرآن لا في الموروث ولا في السياسة ولا في العصبية قال تعالى (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمان به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) الحج 11.
إنه نموذج الإنسان المتذبذب الذي لم يتمسك بحبل الله المتين فسقط في حاوية الشك والتقليد وليس عجيبا أن يكون جزاء هؤلاء كما وصفه الله تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) الزخرف 36 – 37. هؤلاء يعيشون الوهم يحسبون أنهم على الهدى بينما هم في ضلال مبين لأنهم استبدلوا الذكر القرآن بروايات وأفكار ما أنزل الله بها من سلطان.
.
إن العودة إلى الله لا تكون إلا بالعودة إلى كتابه لا بالجدال ولا بالتحزب ولا بالانغلاق بل بالصدق في الإيمان والتطبيق العملي لأوامر الله قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون). الأنفال 24.
إنها دعوة إلى الحياة فالهداية ليست مجرد طقوس بل حياة روحية وعقلية وأخلاقية تنير درب الإنسان والمجتمع ومن أعرض عن هذه الحياة القرآنية فقد اختار بإرادته المعيشة الضنك التي وعد الله بها كل من أعرض عن الذكر.
فيا أيها المسلمون أليس آن الأوان أن نعيد النظر في مسارنا؟ أليس حريا بنا أن نرجع إلى القرآن لنتخذه مرجعا وحكما أليس من العار أن نشهد هذا التمزق باسم الدين الذي جاء ليجمع. إن الله سبحانه يقول (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد 11. فالتغيير الحقيقي يبدأ من داخل النفس من تصحيح العلاقة مع الله ومن فهم القرآن على أنه هداية وعقل ورحمة لا مجرد تلاوة بلا عمل.
.
وفي الختام إن الذين ضل سعيهم في الدنيا هم الذين أعرضوا عن منهج الله واتخذوا دينهم وسيلة للجدال والتفريق يظنون أنهم على خير وهم في غاية الخسران ولن يقبل عند الله إلا من جاءه بقلب سليم مطيع لكتابه متبع لنهجه كما قال سبحانه (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). الشعراء 88-89.
فمن أراد النجاة فليعد إلى القرآن وليتبع هدى الله ففيه وعد صادق لا يخلف (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) طه 123 . تلك هي المعادلة الإلهية البسيطة التي ضيعها الناس فاستحقوا أن يضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.



