حضارة عريقة.. الترعة السوهاجية أحدث مقاييس النيل المكتشفة في مصر
اقترنت حياة المصريين عبر تاريخهم الطويل، بنهر النيل، شريان الحياة الذي كان له الفضل في ظهور حضارة عريقة على ضفافه. حضارة لم يكن لها أن تقام وتمتد لآلاف السنين، لو لم يتمكن المصري من ضبط النيل ومتابعة قياسه ومستوى فيضانه، عبر أكثر من 90 مقياس للنيل توزعت على طول النهر، وقد كان أحدث مقياس يكتشف في هذه السلسلة الطويلة من المقاييس التي أقيمت بمختلف العصور، هو مقياس قناطر الترعة السوهاجية، الذي اكتشف في نهاية عام 2020م. وظل تاريخه غامضا وتفاصيله غير محددة، حتى قام الباحثان د. عبدالرحيم خلف من كلية الآداب بجامعة حلوان، ود. محمد علي سلام من وزارة الآثار المصرية، بنشر دراسة لهما يكشفان فيها قصة هذا المقياس وطرازه وعصره وعناصره المميزة.
قياس النيل سرا!
تقول الدراسة التي حملت عنوان “اكتشاف مقياس أثري جديد للنيل لم يسبق نشره بقناطر الترعة السوهاجية”، ونشرت بالعدد الأخير لمجلة كلية الآثار بجامعة القاهرة، إن مقاييس النيل شكلت أهمية كبيرة في حياة المصريين، خاصة من الناحية الاقتصادية. فقد كان المقياس هو وسيلتهم الرئيسية لمعرفة منسوب ارتفاع الفيضان، وبالتالي معرفة ما إذا كانت أراضيهم ستروى جيدا أو بإفراط أو ريا ناقصا أم أن هناك جفافا يلوح في الأفق.
وقد كان الشكل البدائي لاختراع مقياس النيل، عبارة عن صخرة مثبتة في مكان مناسب على جانب نهر النيل. عليها علامات تبين ارتفاع معدل المياه، ومع الوقت تطورت أشكال وعناصر مقاييس النيل حتى تعطي قياسات أدق.
وتضيف الدراسة أنه خلال العصر الإسلامي بمصر، كانت مقاييس النيل إذا سجلت ارتفاع المياه إلى 16 ذارعا، فقد كان هذا يعني أن النيل سيفي بكميات المياه المطلوبة لري الأراضي. ما يعني أن الخراج سيكون كافيا لسد احتياجات الدولة. أما إذا كان ارتفاع المياه أقل من 16 ذراعا، فقد كانت هذه علامة على قدوم الجفاف وتعرض البلاد لأزمات اقتصادية خانقة. ومن ثم تتهيأ الدولة لأخذ الاحتياطات اللازمة حتى لا ترتفع الأسعار ويعم الغلاء. وهو ما كان سببا في كثير من الأحيان لأن تكون قراءة مقياس النيل سرية لا يعلم بها أحد.
ومن أشهر مقاييس النيل في مصر، مقياس جزيرة إلفنتين بأسوان، ومقياس إدفو الواقع بالقرب من معبد حورس غرب النيل. ومقياس منف الذي كان بمثابة المقياس الرسمي للبلاد في العصر القبطي. إضافة إلى عدد من المقاييس في الدلتا، بخلاف مقياس جزيرة الروضة الذي بني في عام 247هـ.
أثر تحت الركام!
يعد المقياس الجديد المكتشف مؤخرا، جزءا من قناطر الترعة السوهاجية الواقعة بحي غرب مدينة سوهاج. والقناطر أثر يرجع تاريخه إلى عهد الخديوي إسماعيل الذي أمر ببنائها بين عامي 1874م و1875م على فم الترعة السوهاجية. وتضم 19 عينا بالإضافة إلى هويس يسمح بمرور المراكب.
وبحسب تقارير صحفية ترجع إلى عام 2017، فقد عانت القناطر التي أدرجت ضمن المناطق الأثرية في عام 2002، إهمالا شديدا. حيث لم يمنع كونها من نوادر المنشآت المائية التاريخية بمحافظة سوهاج من أن تتحول إلى مرتع للقمامة ومخلفات البناء. وأن يحتل جزءا منها مستودع لأنابيب البوتاجاز، ويتعدى عليها مركز شباب تابع لوزارة الشباب والرياضة.
وبالرغم من استجابة المحافظة لنداءات الأهالي والصحافة بضرورة إنقاذ القناطر الأثرية في مطلع عام 2018. وتوجيهها بالبدء في إزالة الأتربة والمخلفات والتعديات الموجودة على هويس القناطر. إلا أن الإهمال ظل مستمرا حيث تأخرت عمليات تطوير المنطقة وتحويلها إلى مزار وإنشاء حديقة عامة بها.
إضافة إلى ذلك، وبحسب صحيفة الأهرام، فقد تراجع مركز شباب الري. وهو أحد المباني المتعدية على حرم القناطر، عن وعده بالمشاركة في تطوير المنطقة وإيجاد صيغة فنية لمعالجة المخالفة وعدم تأثيرها على القناطر مقابل عدم إزالة مبنى النادي. ولازال الوضع معلقا حتى الآن، وهو ما يهدد بتجدد معاناة الأثر ويفتح الباب أمام توسع التعديات عليه. ما يستدعي تدخلا عاجلا من وزارة السياحة والآثار لاستكمال عملية إنقاذ قناطر الترعة السوهاجية.
أحدث المقاييس المكتشفة
وفي هذا السياق قال الدكتور محمد المصري أستاذ التاريخ بجامعة مطروح، إنه تم الكشف عن مقياس النيل بقناطر الترعة السوهاجية على يد د. محمد علي سلام وفريق عمله التابع لوزارة السياحة والآثار في ديسمبر عام 2020م. أثناء عملية رفع المخلفات عن القناطر وتنظيف عيونها.
وأوضح أستاذ التاريخ بجامعة مطروح، الأثر المكتشف عبارة عن مقياس رخامي مدرج مقسم إلى 6 أجزاء مرقمة. تقوم بتقدير ارتفاع المياه، وبالتالي تحديد إغلاق أو فتح عيون القناطر حسب الحاجة. وهو مبني على طراز المقاييس التي تعود إلى العصر البطلمي والروماني، وهو شبيه بمقياس النيل بجزيرة إلفنتين.
وقد اشتمل المقياس على “بقجة” أو “بؤجة”، والتي كان يطلق عليها مهندسو الري اسم “منسوب الثابت”. وهي عبارة عن بلاطة رخامية مربعة، ملاصقة لطرف المقياس من أعلى. تحدد ارتفاع مكان المقياس عن مستوى سطح البحر الأبيض المتوسط. وقد سجل على هذه البلاطة رقم 62، ما يعني أنها ترتفع عن سطح البحر الأبيض بـ62 سنتيمتر.
اهتمام لن ينتهي
ولفت أستاذ التاريخ بجامعة مطروح، لى أن العثور على المقياس في محافظة سوهاج، يؤكد على انتشار المقاييس على طول نهر النيل من شماله إلى جنوبه. كما يدل وجود “البقجة” ضمن المقياس على تمكن المهندسين في القرن التاسع عشر من معرفة ارتفاع مستوى سطح البحر في كل المراكز والمحافظات المصرية.