“بين القصرين”.. هنا بدأت حكاية سي السيد والست أمينة
توجد المشربية أمام سبيل بين القصرين ويلتقي تحتها شارع النحاسين الذي ينحدر إلى الجنوب وبين القصرين الذي يصعد إلى الشمال فبدا الطريق إلى يسارها ضيقًا متلويًا متلفعا بظلمة تكثف في أعالية حيث تطل نوافذ البيوت النائمة وتخف فى أسافلة، مما يلقى إليه أضواء مصابيح عربات اليد وكلوبات المقاهي وبعض الحوانيت التي تواصل السهر حتى مطلع الفجر وإلي يمينها التف الطريق بالظلام حتى يخلو من المقاهي وحيث توجد المتاجر الكبير التي تغلق أبوابها مبكرًا، فلا يلفت النظر به إلا مآذن قلاوون وبرقوق لاحت كأطياف من المردة ساهرة تحت ضوء النجوم الظاهرة”.
هكذا وصف “نجيب محفوظ” شارع بين القصرين فى الجزء الأول من ثلاثيته الشهيرة، والتى تحكي عن أسرة من الطبقة الوسطى، تعيش في حي شعبي من أحياء القاهرة في فترة ما قبل وأثناء ثورة 1919.
هذه الأسرة يحكمها أب متزمت ذو شخصية قوية هو السيد أحمد عبدالجواد (سي السيد)، ويعيش في كنف الأب كل من زوجته أمينة، وابنه البكر ياسين، وابنه فهمي وكمال، إضافة إلى ابنتيه خديجة وعائشة.
سي السيد
قبل أن يأتي الأبناء إلى الوجود، لم يكن يحوي هذا البيت الكبير بفنائه التراب وبئره العميق وطابقيه حجراته الواسعة العالية سواها أكثر النهار والليل، وكان حين زواجها وهى فتاة صغيرة دون الرابعة عشرة من عمرها، فسرعان ما وجدت نفسها عقب وفاة حماتها وسيدها الكبير ربة للبيت الكبير، تعاونها عليه امرأة عجوز تغادرها عند جثوم الليل، لتنام فى حجرة الفرن تغفو ساعة وتأرق ساعة حتى يعود الزوج العتيد من سهرة طويلة.
يحاول “محفوظ” في رواية بين القصرين أن يظهر أكثر من صورة في هذه القصة مابين الشعب المصري أيام الاحتلال البريطاني والأتراك والألمان، وما بين الشباب المقاوم وكيفية تكوينه جمعيات سرية لطرد المحتلين عن مصر.
ومن أهم المفاهيم التى سلط الضوء عليها محفوظ فى الرواية هي نظرة المجتمع للمرأة حينها ومفاهيم الرجل الشرقي واختلافاته داخل وخارج البيت، ففي وسط أحداث الاحتلال والمقاومة يسرد لنا قصة أسرة مصرية تمثل حينها معظم الأسر في مصر في ذلك، ليوضح التفرقة بين الرجل والمرأة، والتى ينحصر دورها في التربية وخدمة الرجل وتأمين راحته وليس لها الحق أن تطالب بحقوقها أو حتى تبدي رأيا في أي موضوع وإن كان يخصها، حتى أنها لم تكن تستطيع أن تشاركهم الأكل على طاولة واحدة في ذلك الوقت.
تاريخ الشارع
أما عن تاريخ شارع بين القصرين، وهو شارع المعز حاليًا، فتوضح الدكتورة سعاد محمد فى كتابها “القاهرة القديمة وأحياؤها”، أنه يعود لعصر الدولة الفاطمية، حيث بني الخليفة جوهر الصقلي قصرين، الأول على جانبه الشرقي وخصصه للخليفة المعز وعرف باسم “القصر الشرقي الكبير”.
وظل الحال حتى قضى صلاح الدين الأيوبي على الدولة الفاطمية في مصر واتخذ هو وأمراء دولته القصر الكبير مقرًا لحكم دولتهم، إلى أن تم بناء قلعة الجبل فوق جبل المقطم، ومنذ ذلك الحين تُرِك القصر الكبير مهملا، و اليوم تحل محله قبة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وعدد من المدارس الفاطمية بينها “الظاهرية” و أخرى تحولت لـ”متحف النسيج المصري” وهذه المنطقة برمتها ضمن شارع المساجد الكبير “المعز”، بينما موقع القصر الصغير اليوم يحتله مسجد الحسين وخان الخليلي بامتدادهم حتى موقع القصر الكبير.
وعرفت المنطقة الواقعة بين القصر الشرقي والقصر الغربي باسم “بين القصرين”، وكانت مسرحا للاحتفالات والمواكب الدينية والعسكرية.