نفيسة البيضاء.. أم المماليك التي عاشـت أميرة وماتت ذليلة
أسماء صبحي
نفيسة البيضاء. هي من أكثر الشخصيات النسائية شهرة خلال عصري المماليك والحملة الفرنسية على مصر. كانت جارية شركسية جلِبَت إلى مصر، لا يعرف أحد محل ميلادها. فمنهم من قال إنها من الأناضول، أو بلاد القرم أو حدود القوقاز. وكانت بيضاء البشرة على جانب كبير من الثقافة والغني، وروعة الجمال، والحياء. واشتهرت باسم نفيسة البيضاء، وأطلق عليها آخرون اسم نفيسة المرادية، نسبةً إلى زوجها الثاني مراد بك.
زواج نفيسة البيضاء
وتقول أميمة حسين، الخبيرة في التراث، إنه بدأ ظهور أمر نفيسة عندما دخلت في حريم علي بك الكبير. الذى أعجب بجمالها، وهام بحبها فتزوجها وبنى لها داراً تطل على بركة الأزبكية في درب عبد الحق. وعندما طلب محمد بك ابوالذهب من مراد بك مساعدته فى خيانة علي بك الكبير. اشترط عليه نظير موافقته على الخيانة أن يسمح له بالزواج من هذه الجارية التي هام بها حباً. فلما قتلَ علي بك الكبير عام 1773 تزوج مراد من هذه الحسناء. وهكذا كانت نفيسة الجائزة التي طلبها أحد أشهر المماليك ثمناً لخيانته.
وأضافت أميمة، أن نفيسة دخلت منزل مراد بك وقد ورثت عن علي بك الكبير ثروة طائلة. وزادت هي ثراء فوق ثراء بعد هذه الزيجة الجديدة، وعاشت معه حياة الترف بما جلبته له من ميراثٍ شمل إلى جانب البيوت والقصور والتجارة جيشاً خاصاً يتألف من 400 مملوك وأسطولاً من السفن على النيل. وستاً وخمسين جارية واثنين من الخصيان في حاشية نفيسة الخاصة.
وأشارت الخبيرة في التراث، إلى أن نفيسة عاشت مع زوجها مراد بك الذي حكم مصر مع إبراهيم بك بعد موت أبو الدهب لمدة تزيد على عشرين سنة. وبقدر ما كان مراد بك من كبار الخونة، كانت نفيسة امرأة رائعة وقوية في شخصيتها. فكانت السند والمستشار لزوجها مراد بك في الشأن العام، وحاولت في أكثر من مناسبة الحد من آثار المظالم التي ارتكبها زوجها بحق المصريين. كما كانت تعارض زوجها مراد بك وهو مطلق السلطان على مصر. في مصادرة أموال التجار الأوروبيين وإرهاقهم بالضرائب والغرامات.
أعمالها الخيرية
وأوضحت أنهت نجحت فى استثمار أموالها وتجارتها في الأسواق. كما أنشأت مجموعة خيرية تتكون من سبيل يعلوه كتاب ووكالة تجارية بها محال تؤجر ويستغل ريعها للصرف على السبيل والكتاب. إضافة إلى حمامين يستَغل ريعهما لأوجه الخير، ويعلو الوكالة والحمامين ريع لإسكان فقراء المسلمين بمبالغ رمزية. وقد عرِفَت هذه المجموعة باسم السكرية، وهي المنطقة نفسها التي تحدث عنها الأديب نجيب محفوظ في ثلاثيته الروائية.
وقالت إنها تبرعت بإعانات شهرية للعديد من العائلات التي انقلب عليها الزمن. لذلك عظمت مكانتها بين الناس وطبقت شهرتها كافة الأوساط. وحين هزِمَ جيش مراد بك أمام القوات الفرنسية في موقعة الأهرام في 21 يوليو عام 1798. فر مع فلول قواته إلى الجيزة، ثم هرب إلى الصعيد ليبدأ في شن حرب عصابات ضد الجيش الفرنسي.
وتابعت: “أما نفيسة فظلت في القاهرة وعملت بذكاء على حماية الأملاك الضخمة الخاصة بها وبزوجها. وبسطت حمايتها على كثير من نساء المماليك المنكوبين، وواست عدداً كبيراً من الفقراء الذين نكِبوا في الحملة الفرنسية من أهل القاهرة. ودفعت كثيراً من الغرامات التي فرضها الفرنسيون على المصريين ولم يستطع غالبيتهم دفعها. ونالت بذلك احترام المصريين والأجانب.
وأوضحت، أنه في الوقت نفسه، حافظت تلك السيدة على علاقة مجاملة مع إدارة الحملة الفرنسية. حتى إنها سمحت بتمريض جرحى الجنود الفرنسيين في قصرها. وقد استضافت نابليون بونابرت على العشاء في قصرها، وتلقت في تلك المناسبة هدية عبارة عن ساعة مرصعة بالألماس. كما كان قواد نابليون ورجاله كلهم يرعون جانبها ويحملون لها في تقديرهم حساباً كبيراً. بل إن ديجنت كبير أطباء الحملة الفرنسية عندما ألف كتابه باللغة العربية عن مرض الجدري في مصر أهداها خمسين نسخة منه.
ولفتت إلى أنه بعد مغادرة نابليون لمصر أعلن أنه “سيظل صديقاً إلى الأبد” لهذه المرأة. حتى إنه بعث وهو في قمة مجده، أمراً إلى قنصل فرنسا في مصر، بأن يبذل كل جهده لحمايتها ورعاية أمرها.
وفاة زوج نفيسة البيضاء
واستطردت أميمة أنه عندما تولى كليبر قيادة الحملة، تولى زوجها مراد بك حكم الصعيد بناءً على اتفاق مسبق بينهما. إلا أن هذا الاتفاق لم يدم طويلاً، إذ أصاب الطاعون مراد بك، ومات به في 22 إبريل عام 1801 ودفِن في سوهاج.
وأضافت أنه بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر في وقت لاحق من ذلك العام. نجحت نفيسة بمهارة في الحصول على حماية البريطانيين الذين بسطوا نفوذهم فى مصر لفترة قصيرة. ومع تعزيز العثمانيين سيطرتهم على مصر، واصلت نفيسة بثبات سياسة حماية المماليك وأسرهم من النظام الجديد -الذي كان شديد العدائية تجاههم- مثلما فعلت في ظل الاحتلال الفرنسي. وباتت تعرف في تلك الفترة باسم “أم المماليك”.
وتعرضت نفيسة لإساءة بالغة عندما تولى حكم مصر الوالي العثماني أحمد خورشيد باشا عام 1804. حيث طلبها يوماً إلى القلعة مقر حكمه ووجّه إليها بعض التهم الباطلة. بينها اتهام بالتدبير لثورة في مصر، وأنها استعانت بكثير من الجواري يوزعن المنشورات ضده، وضد حكم المماليك والباشوات. وكان رد نفيسة عليه بالقول: “إن السلطان وعظماء الدولة رجالاً ونساء يعرفونني، ويعرفون قدري. حتى الفرنسيون، أعدائي وأعداؤك، لم أر منهم إلا التكريم والاحترام، أما أنت فلم يوافق فعلك فعل أهل دولتك ولا غيرهم”.
سجنها ووفاتها
غضب أحمد خورشيد باشا من تلك السيدة، فاقتادها إلى السجن. الأمر الذي أثار غضب من يدينون لها بالفضل وبالمال، واستمرت هذه السيدة، حتى في أيام محنتها، ترعى بمعروفها وبرها أسراً كثيرة أصابها العناء والفقر بعد أن كانت كريمة ميسورة. وامتدحها مؤرخنا عبد الرحمن الجبرتي خلقاً وسلوكاً وشجاعة. وعندما اعتقِلَت في بيت السحيمي حاولت الهرب ليلاً، لكنها لم تفلح. وظلت تنتقل من عذابٍ إلى هوان إلى فقر حتى نسي الناس اسمها ورسمها.
وبعد أن تولى محمد على باشا حكم مصر عام 1805، لقيت نفيسة على يديه أشد المحن والكوارث حبث جعلها الباشا تحت التحفظ وأجلسوها في بيت أحد المشايخ في حراسة جماعة من العسكر، حتي تدخل العلماء في أمرها. وتوسطوا في إطلاق سراحها بعد أن صادر محمد علي ما بقي لها من مال وعقار. وعاشت بقية أيامها في فقر وجهد، لكنها واجهت ذلك كله بصبر وقوة عزيمة، ولم تفارقها مروءتها ولا علو نفسها ولا إباؤها.
وماتت نفيسة البيضاء عجوزاً فقيرة، بعد أن كانت ملكة على مصر، في يوم الخميس 19 إبريل عام 1816 في بيتها الذي بناه لها زوجها الاول علي بك الكبير. ووريت الثرى إلى جواره فى القرافة الصغرى في الإمام الشافعي. وبعد موتها استولى محمد علي باشا على هذا البيت وأسكن فيه بعض أكابر دولته .