كتابنا

 د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي يكتب :العرب والنظام العالمي متعدد الأقطاب

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي يكتب :العرب والنظام العالمي متعدد الأقطاب.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تشكل نظام عالمي جديد، غير الذي كان سائدا خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، وذلك على إثر هزيمة النازيين في ألمانيا بدخول الجيش السوفييتي، ومن بعده جيوش الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، العاصمة الألمانية برلين. تميز ذلك النظام بوجود قطبين فيه، أحدهما بقيادة الاتحاد السوفييتي ومعه مجموعة دول في شرق أوروبا ووسطها.
وفي إطار ذلك القطب شكلت دوله في عام 1955 حلفا عسكريا، تأسس بموجب اتفاقية أو معاهدة هي “معاهدة الصداقة والتعاون والمعونة المشتركة”، ويطلق عليها اختصارا بحلف وارسو، نسبة إلى وارسو عاصمة جمهورية بولندا. وقبل تأسيس حلف وارسو، وتحديدا في عام 1949 أسست تلك الدول مجموعة للتعاون الاقتصادي، سُميت “مجلس التعاون الاقتصادي”، وكان يُعرف اختصارا باسم كوميكون، الذي انضمت لاحقا إلى عضويته كذلك كل من كوبا وفيتنام.
أما القطب الآخر فهو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد شكل المنتمون إليه في عام 1949 تحالفا عسكريا وأمنيًا أطلق عليه منظمة شمال الأطلسي، ويعرف اختصارا بحلف ناتو. وإلى جانب القطبين المذكورين، ضم النظام العالمي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، المجموعة المعروفة بمجموعة عدم الانحياز، التي تضم في عضويتها غالبية دول آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وكذلك يوغسلافيا التي كانت العضو الأوروبي الوحيد في هذه المجموعة. وقد لعبت الدول العربية، لا سيما مصر، دورا بارزا في تأسيس مجموعة عدم الانحياز وكانت محركا رئيسا لأنشطتها، وذلك إلى جانب يوغسلافيا والهند وإندونيسيا.

استمر ذلك النظام بقطبيه الرئيسين المتنافسين، وبمنظمتيه العسكريتين، حلف الناتو وحلف وارسو، مدة تزيد قليلا عن أربعين عاما. وقد دخل العالم خلال تلك السنوات فيما يعرف بفترة الحرب الباردة، التي يمكن القول إنها، بالإضافة إلى التنافس العقدي والاستراتيجي بين القطبين، تخللتها كذلك حروب بالإنابة عنهما وحروب أخرى ساخنة تورط فيها أحد أو بعض المنتمين إلى القطبين، مثل الحرب في كوريا والحرب في فيتنام والغزو السوفيتي لأفغانستان. وقد كادت المنافسة والمواجهات السياسية والعقدية بين القطبين أن تتطور إلى حرب مباشرة بين بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي خلال ما عُرف بأزمة الصواريخ التي نصبها الاتحاد السوفييتي في كوبا.

خلال فترة الحرب الباردة تدهورت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الاتحاد السوفييتي والدول الأخرى في حلف وارسو، مما أدى إلى انتفاضات شعبية، حدثت أكثر من مرة وفي أكثر من دولة من دول الحلف، وكان من أشهرها تلك التي حدثت في جمهورية تشيكوسلوفاكيا في عام 1968، والتي أطلق عليها الغرب “ربيع براغ”، نسبة إلى براغ، عاصمة جمهورية التشيك حاليا. وبعد سنوات عديدة من التململ الاجتماعي والضعف الاقتصادي، أدركت القيادة الجديدة في الاتحاد السوفييتي خلال ثمانيات القرن الماضي أنه لا بد من إدخال إصلاحات واسعة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتبنى الزعيم السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، سياسته المعرفة بسياسة الانفتاح والشفافية “غلاسنوست” و”بيريسترويكا”. وفي تلك الأثناء، زادت الاضطرابات العمالية والسياسية في عدد من دول أعضاء حلف وارسو، مما أدى إلى تشكيل حكومات جديدة فيها معادية للاتحاد السوفييتي. وانتهى حلف وارسو كليا ومعه مجلس الكوميكون بسقوط جدار برلين في 9 نوفمبر عام 1989.

بقدر ما أعطت سياسة الغلاسنوست والبيريسترويكا بعض الحريات السياسية والاقتصادية في الاتحاد السوفييتي، فإنها أدت كذلك إلى إضعاف مركزية الدولة السوفييتية وقبضتها، الأمر الذي لم يقف عند انتهاء حلف وارسو وتفككه، وإنما أدى إلى تفكك الاتحاد السوفييتي نفسه إلى خمسة عشر دولة مستقلة. وبتفكك الاتحاد السوفييتي، انتهى نظام القطبين، إذا لم تستطع روسيا اتخاذ سياسات فعالة في مواجهة القطب الأوحد الذي تقوده أمريكا، خاصة وأن حلفاءها السابقين قد أصبحوا في مواجهتها ضمن القطب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن كلهم تقريبا أصبحوا أعضاء في حلف الناتو.

في العالمين العربي والإسلامي أدى انتهاء نظام القطبين إلى تأثيرات كبيرة، أو لنقل كارثية، على الدول والمجتمعات العربية والمسلمة. وقد ظهر ذلك جليا في غزو أمريكا وحلفائها للعراق وقبلها أفغانستان، من دون قرار من الأمم المتحدة يجيز لها التدخل أو شن حرب على أي من البلدين، على عكس ما كان عليه الحال في الحرب التي قادتها أمريكا قبل ذلك لإخراج القوات العراقية من الكويت، حيث صدر قرار من مجلس الأمن يجيز التدخل بكل الوسائل اللازمة. كما أن ضرر هيمنة قطب واحد على العالم زاد من معاناة الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة ذات السيادة، خاصة بعد أن أعلنت أمريكا ما يسمى “صفقة القرن” واعترافها بالقدس عاصمة “لإسرائيل”، وقامت بنقل سفارتها اليها، دون مراعاة للقانون الدولي ولا لما يسمى الشرعية الدولية. وفي الجانب الإنساني من القضية الفلسطينية أصبحت “إسرائيل” مطلوقة اليدين في ممارساتها تجاه الشعب الفلسطيني، فهي في كل يوم تقريبا تقتل وتعتقل وتهدم بيوتا وتصادر أراضٍ من أصحابها، دون عقاب ولا حتى مساءلة من جانب القوى المتنفذة في العالم. وفي سياق واقع القطب الواحد السائد حاليا، تأتي كذلك الانتقاد الأخير الذي وجهته أمريكا إلى المملكة العربية السعودية والتهديد باتخاذ عقوبات ضدها، بسبب قرار “أوبك+” تخفيض انتاج النفط، وهو قرار تم اتخاذه لأسباب اقتصادية. ولا شك أن سياسات كهذه ضد من هم في عداد الأصدقاء، هي سياسة استعلائية فجة أرادت الإدارة الأمريكية من خلالها تجيش الكل ضد روسيا في الحرب الدائرة في أوكرانيا. ومن الواضح أن ذلك الانتقاد والتهديد بفرض عقوبات هو استمرار للشعار الذي رفعه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، الذي قال “من ليس معنا فهو ضدنا”، رغم أن الرئيس الحالي جو بايدن من الحزب الديموقراطي، بينما كان جورج بوش من الحزب الجمهوري.

الحرب الدائرة حاليا في أوكرانيا ستؤدي حتما إلى تغيير في النظام العالمي الذي بدأ مع نهاية الحرب الباردة، وروسيا ليست هي الدولة الوحيدة التي تسعى إلى إقامة نظام جديد، وإنما هناك دول هي في الحلف المواجه لها، مثل ألمانيا التي تطالب بعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي، ومعها في نفس المطلب الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها من الدول. هذا إلى جانب الصين التي يبدو أن قوتها الاقتصادية والحضارية والبشرية تجعلها غير راضية عن الوضع السائد، خاصة فيما يتعلق بتدخل الغرب في أمور تراها من شؤونها الداخلية، مثّلْ الوضع في تايوان أو في هونغكونغ أو في مقاطعة شينجيانغ.

وللأسباب التي ذكرناها أعلاه، فإن من مصلحة العرب، سواء على الصعيد القُطري أو القومي، أن يعملوا مع العاملين على إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب. على أن المساعدة في إقامة نظام متعدد الأقطاب ليست هدفا ينتهي عنده دور الدول العربية، بل يجب أن يكون العرب أحد أقطاب ذلك النظام، لما يحملونه من رسالة عظيمة تنشد الأمن والسلم في العالم، وبما لديهم من ثقل سكاني ومقدرات اقتصادية وموقع جغرافي يتوسط العالم. وإذا كانت الدول العربية بقيادة مصر قد أسهمت في إنشاء حركة عدم الانحياز في ستينات القرن الماضي، فإن موارد الطاقة في المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي والجزائر يمكنها من أن تكون قطبا مؤثرا في النظام العالمي المنشود. كما أن مصر بما لديها من ثقل سكاني وإرث حضاري وبملكيتها وسيادتها على قناة السويس، إلى جانب مشاركة بعض الدول العربية في تأمين وسلامة طرق الملاحة الدولية، مثل عُمان واليمن والمغرب، يمكنها مجتمعة أن يكون لها تأثير كبير في ذلك النظام.

أخيرا، ولما كان النظام العالمي متعدد الاقطاب هو في طور التشكل، ومن أجل أن يكون للعرب دور في تشكيله والسعي لأن يكونوا أحد أقطابه، فإن هناك حاجة ماسة وعاجلة إلى إصلاحات واسعة داخل كل دولة، وإلى إعادة تشكيل للمنظمات العربية المشتركة، وعلى رأسها الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي. وبدون تلك الإصلاحات لا يمكن للعرب أن يكونوا فاعلين أو مؤثرين في النظام الجديد، كما أنه من المؤكد أنه لا يمكن لأي دولة عربية أن تحقق ذلك بصورة منفردة.

( جريدة عمان )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى