الشعر.. أسطورة السوداني الخالدة
كتب – أحمد كمال ابراهيم
لقد سقت مياه النهر جزيرة الحب، وأشقاء وجيران النهر في مصر، والسودان، وأثيوبيا، وتكوثر النهر عذباً أزرقاً صافياً بلون السماء. فتلونت الغيمات، وترطبت القلوب بموسيقا الجمال ، وبالطبيعة السعيدة الشاهقة الباذخة الأثيرة. وعلى ضفاف النهر تكونت أسطورة السودانى المحب، والمتطلع لمحبيه؛ أشقائه، فصنع مراكب الشمس النيلية ليؤطر للخلود مسيرته الدافقة.
ولقد أنشد الشاعر د.عبده بدوى في مصر لأخيه في السودان. متغنياً بأخوة ومجد مشترك وحضارة ممتدة من النهر إلى النهر، يقول :
أخي في الشرق والتاريخ والنهر الذي يجرى
أضـم غدي وألثمه على أهـدابـك السُمـر
حملتُ بقلبي السودان حين بسمتُ عن مصر
فمن يلقاك يلق الفجر ملتفاً على عمري .
ولعل أجمل ما كتب عن النيل وجدناه لدى الشاعر السوداني الكبير ادريس جماع، فقد هام عشقاً بالنيل. وطفقت أبياته تنساب من مداه وتجرى مع ماء النهر المتناغم، يقول :
النيل من نشوة الصهباء سلسله وساكنو النيل سمار وندمان
وخفقة الموج أشجان تجاوبها من القلوب التفاتات وأشجان
كل الحياة ربيع مشرق نضر في جانبيه وكل العمر ريعان
تمشي الاصائل في واديه حالمة يحفها موكب بالعطر ريان
وللخمائل شدو في جوانبه له صدي في رحاب النفس رنان
إذا العنادل حيا النيل صادحها والليل ساج فصمت الليل آذان
حتي إذا ابتسم الفجر النضير لها وباكرته أهازيج وألحان
تحدر النور من آفاقه طرباً واستقبلته الروابي وهو نشوان
تدافع النيل من علياء ربوته يحدو ركاب الليالي وهو عجلان
ما مل طول السري يوما وقد دفنت علي المدارج أزمان وأزمان
ينساب من روضة عذراء ضاحكة في كل مغني بها للسحر إيوان
حيث الطبيعة في شرخ الصبا ولها من المفاتن أتراب وأقران
وشاحها الشفق الزاهي وملعبها سهل نضير وآكام وقيعان
ورب واد كساه النور ليس له غير الأوابد سمّار وجيران
ورب سهل من الماء استقر به من وافد الطير أسراب ووحدان
تري الكواكب في زرقاء صفحته ليلا إذا انطبقت للزهر أجفان.
أساطير سودانية
قال الكاتب البريطاني مورهيد في كتابه: “النيل الأزرق” – والذي تطرق لغزو السودان بواسطة الباشا محمد علي – في عام 1820م. إن السودانيين كانوا يعتبرون الحرب نوعاً من اللعب. وإن الموت ليس إلا “هجوع”. وتبدأ الحرب بواسطة عذراء من ظهر جمل تلقي بمنديلها.
وتبدأ المباراة، ومن تلك الحروب كانت حرب العقال التي عقل فيها الطرفان الأنعام، وتقرر أن يفوز الفائز بالأنعام والنساء. وانتصر الحمر علي الكبابيش، إلا أنهم أرجعوا النساء والأطفال بعد أن زودوهم بالزاد والجمال. ويضيف : “لم أعرف أي أمة تبحث عن الموت مثل السودانيين”.
وهذا دليل شجاعة وشهامة السودانيين من جهة؛ ولدور المرأة المهم في الحياة العامة والخاصة، ومن بينها الإبداع. ويأتى على رأس أولويات الإبداع، الشعر، ويقال إن إحدى القرى هناك كان أهلها ولايزالوا يقرضون الشعر.
فلما سأل الناس عن عدد الشعراء في القرية، أجاب الصحفي: يمكن لي أن أذكر لكم عدد من لا يكتب شعراً فقط ، وهذا دليل محبة السودانيين للشعر. والذى يدخل في مقومات الهوية السودانية، والحياة بشكل عام. لأنه يشكل منظومة القيم ،خاصة الشعر الدينى؛ وشعر التصوف والوجد.
الشعر عجينة الحياة لدى السودانيين
والشعر في السودان هو أحد مفردات الحياة، وعجينة الهوية القومية،التى تشكل منظومة الوعى والذائقة. وتفتح للسودان طريقاً نحو العالمية والتقدم. وتتجسد مقولة: ” الشعر ديوان العرب” هنا بقوة. إذ يوثق الشعر الحياة بكل تفاصيلها، والعالم بمكوناته والكون بديمومته وصراعاته:الزمان والمكان وأحوال المجتمع.
كما يعكس الشعرآلام وآمال وطموحات السودانيين، ويكشف قضاياهم، ويعالج روحهم المقبلة على الحياة. حتى غدا الشعر طريقاً وطريقة للعلاج الروحى، وقد تجسد ذلك في الشعر الدينى ، الصوفى، الذى يعكس الفطرة من جانب. ويؤكد النزعة الدينية الوسطية، ويجسّد الإيمان الروحى والإسلامى، ويعالج النفوس المحبة العاشقة، والنازعة نحو نور الإله الخالق القدير.