حوارات و تقارير
وسقط ملوك الطوائف
وسقط ملوك الطوائف
عندما أوشكت الخلافة الأموية في الأندلس على السقوط، لم تسقط دفعة واحدة.
لقد جرى عليها ما جرى على الفاطميين بعد ذلك في مصر، وما جرى على المماليك أيضاً.. لقد ضاعت الزعامة منهم عبر انقلاب سلمي لم ترق فيه قطرة دم -بالمعنى المباشر للانقلابات الدموية-!
لقد ولي أمر الخلافة طفل في السابعة من عمره يدعى ”هشاماً ” ولما لم يكن بإمكانه حكم البلاد، فقد كانت أمه ”صبح” وصية عليه، ولم تستطع “صبح” هذه أن تنفرد بالسلطة، فقد أشركت معها في الأمر رجلاً من أغرب الرجال وأقدرهم يدعى ”المنصور بن أبى عامر” .
وقد نجح هذا المنصور في أن يعبر الانقلاب السلمي بنجاح، ويحول الخلافة الأموية في الأندلس إلى ملك ينتسب إليه، ويرثه أبناؤه من بعده! وإن كان لبني أمية الاسم الرمزي والخلافة الصورية.
ولم يمضِ أكثر من أربعين سنة حتى كانت دولة العامريين قد أصبحت آخر ومضة تمثلت فيها دولة الخلافة الأموية في الأندلس، وبسقوط دولة العامريين التي قامت على غير أساس، انفرط عقد الأندلس، وظهر بهذه الأرض الطيبة عصر من أضعف وأردأ ما عرف المسلمون من عصور الضعف والتفكك والضياع.
لقد ورث خلافة الأمويين أكثر من عشرين حاكماً في أكثر من عشرين مقاطعة أو مدينة، وقد انقسم هؤلاء الحكام إلى بربر وصقالبة وعرب، وكانت بينهم حروب قومية لم يخمد أوارها طيلة السنوات التي حكموا فيها.
ولقد ترك هؤلاء الملوك المستذلون الضعاف الملوك النصارى يعيشون بهم ويتقدمون في بلادهم، وانشغلوا هم بحروبهم الداخلية، وباستعداء النصارى ضد بعضهم البعض.
وتسابقوا على كسب النصارى، وامتهنوا في ذلك كرامتهم وكرامة الإسلام، فدفعوا الجزية وتنازلوا طوعاً عن بعض مدنهم للنصارى، وحاربوا في جيوش النصارى ضد المسلمين من إخوانهم في المدن الأخرى من أرض الأندلس الإسلامية.
ولا يستطيع المرء أن يزعم أن باستطاعته أن يحصي كل مساوئ الفترة المسماة بفترة ملوك الطوائف.
ولقد أدى التنافس بين هؤلاء الملوك إلى رفعة منزلة الشعراء والأدباء والمطربين، ولم يكن ذلك حبّاً في الأدب، ولا إعجاباً بفن الطرب، وإنما كان ذلك من جملة أساليبهم في حرب بعضهم البعض، وفي محاولة تحصيل المجد والشهرة المزيفين.
وقد اشتهر من بين هؤلاء الملوك المتنافسين أسرة بني عباد، التي نبغ فيها المعتمد بن عباد كأمير مشهور عاطفي، وكشاعر كبير ذي قلم سيّال!
ولقد استفحل الخلاف والتنافس بين هؤلاء الملوك، كما استفحل كذلك ضعف كل منهم، وكان من نتائج ذلك طمع النصارى في إشبيلية وفي المدن الأندلسية الأخرى.
ولئن كان للمعتمد بن عباد من فضل، فإن ذلك الفضل لن يكون إلا في محاولته مقاومة هذا الخطر حين رأى دنوه من أبواب المسلمين.
ولم يكن أمامه من مخرج غير الاستعانة بقوة المغرب العربي.. فاستعان بالمرابطين في المغرب الأقصى، وعندما كان بقية ملوك الطوائف يبدون خشيتهم من المعتمد، قال لهم كلمته المشهورة: ”لأن أرعى الجمال في صحراء العرب خير من أرعى الخنازير في أرض الصليبيين”.
ولقد تقدم زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين فعبر البحر و (جبل طارق) لنجدة المسلمين في الأندلس وحقق في (معركة الزلاقة) سنة 479 هـ (1086 ف) انتصاراً كبيراً ساحقاً على النصارى كان من أثره مد عمر الإسلام في الأندلس فترة أخرى من الزمن.
ولقد تبين ليوسف بن تاشفين بعد ذلك أن ملوك الطوائف هؤلاء ليسوا أهلا للبقاء في مراكز السلطة في الأندلس، وجاءته النداءات والفتاوى من العلماء كالغزالي بوجوب الاستيلاء على الأندلس فاستولى على الأندلس وأعاد إليها وحدتها، وطرد هؤلاء الطائفيين الذين كانوا يخشون قدومه، ويفضل بعضهم النصارى عليه.
وفي مدينة (أغمات) بالمغرب الأقصى عاش (ابن عباد) أشهر ملوك الطوائف بقية أيامه فقيراً ذليلاً لا يجد ما يكفيه!
إن هذه هي النتيجة الطبيعية لكل ملوك طوائف في كل عصر، فالذين يخشون الموت سيموتون قبل غيرهم، والذين يحسبون للفقر حسابه مضحين بكرامة دينهم ووجود أمتهم.. سوف يصيبهم الفقر من حيث لا يشعرون.
ولقد نسي ملوك الطوائف هذه الحقائق.
فنغَّص الله كل شيء عليهم حتى الموت، كما قال ابن صمادح الطائفي حاكم (ألمرية) وهو يحتضر ويسمع أصداء الهجوم على قصره، فليبحث ملوك الطوائف في كل عصر عن الحياة، حتى لا يبحثوا ذات يوم عن الموت فلا يجدوه، وحتى لينغِّص الله عليهم كل شيء حتى الموت.. فتلك سنّة الله.