المزيدفنون و ادب

“نجوجو انيانج” في حديقة الحب الأخضر

حاتم عبدالهادى السيد

يعد الشاعر / نجوجو انيانج أحد شعراء السنغال الذين يمتلكون ناصية الحرف، دون ضجيج، ويجىء شعره الهامس كموسيقا تطن في فراغ الروح، عبر منمنمات الإحالات الرامزة الدالة ، وفى قصيدته : ” شمعة للغياب ” يحيلنا إلى الأمل ، الحياة بإتساعها وجمالها، الطبيعة بسحرها، الذات المغردة كشدو البلابل ، وألحان الجمال الهامس، فرأيناه يستخدم الصورة وظلالها، عبر الموضوع الذى تتجاذبه حالتان : الحضور والغياب ، وهو بينهما نراه متكئاً على عصا الصمت ، يبحث في الكون عن ابتسامة غابت في مجاهل الكون والعالم، يريد الحب المشتهى عبر بوابات الجمال والأمل، لكنه يقبع كذلك في الصورة وظلال ألوانها المتلألأة ، ويرسم لنا صورة بصرية، سينمائية، تجسيدية لحالة الترقب والقلق الروحى، والتوق إلى عُنّاَبة يتغياها لتشهق داخل روحه الشاهقة، يقول :

“كان مُتكئًا على صَمْتِه، يَتَرقَّبُ ابتِسامَةً ذبُلَتْ في الغِياب”

لَمْ تَلْتَفِتْ،

يومَ وجْهُ الشَّارعِ الْتَفتَا

وحِينَ عانقَ ظِلِّي ظلَّهَا

انفلَتَا..

إنه يؤرشف هنا للتصوف الذاتى عبر فونيمات الحروف، واللغة التى صفّاها الجمال الروحى فصفت لعلّيين، وارتقت مع المتصوفة إلى آفاق الذات والكون؛ ولكنها صوفية خاصة، فلسفة تأرجح وجوده، يتشهاها ولا تجىء، وينتظر حضورها فتغيب، هو موزع عبر ثنائيات البوح الهامس، الحزين كربابة تعزف موسيقاها في الروح الآسنة ، يقول :

لَمْ أُمسِكِ الوقتَ،

فاضَ الوقتُ بينَ يَدِي

وما عَثَرتُ على التَّقْوِيمِ

أزمنَةَ

على اللَّيَالي

التِي تَبْكِي انْطِفاءَ دَمِي

مِن بعدِ ما اتّقدَتْ في الرُّوحِ

أُغنيةَ

إنه الغياب في الحضور، لم يعد يعرف تفاصيل التقويم ولا الزمان، وربما المكان، فهو تائه في التيه يبحث عن وجهتها / وجهته، ذاتها / ذاته وكأنه اتحد معها فنسى التقاويم والتواريخ ، وانفلت في مجرة التوهان اللذيذ، العشق العفيف الطازج، والهامس كذلك ، وقد رأينا الهوى والغرام يجرفانه ولم تجد معه أشرعة القلب الواهنة ، لكن سفينة المل التى تسير بعطر الشوق، ووجع الغرام لا زالت تسير، ليتجدد المل لديه، ويقوى على الحياة ،يقول :

على صَباحٍ كَئِيبٍ

سَالَ فِي مُدُني الوَسْنَى

ولَم يَمْنحِ الأطفالَ أُمنيةَ

على النَّسِيمِ

الذِّي كنّا نُخَبِّئُ في أنْفاسِهِ

مِنْ حَديثِ الشَّوقِ

مَلْحمةَ

على خُطَانا

التي قد أَعْشَبتْ وَطَنَا

مِنَ الغرامِ

يَظلُّ الشيخُ فيهِ فَتَى .

على هَوَانَا

الذِّي قَدْ ظلَّ يَجرفُنا كالنَّهرِ

حتى مَدَدْنا القلبَ

أشرِعةَ.

إنه إذن الحزين الآسن، الغريب الحاضر/ الغائب، حزين على ذاته / مجتمعه/ مستقبل الأطفال في وطن لا يمنحهم أغنية، كما لم يمنحه من قبل ابتسامة، لذا رأيناه واهناً ، مقروحاً ن مجروحاً على حافة الصباح الذى أهرق دمه من أجله، لكنه مع كل ذلك يذوب عشقاً في الوطن / الحبيبة، والغرام الذى يحيل الشيخ إلى فتى فيتجدد شبابه بالغرام والحب، ليظل قلبه الأخضر يعشب الجمال الكونى الفريد ، والجميل أيضاً .

إن شاعرنا هنا عاشق مستهام، موجوع بالحب والغرام ، يحنو إلى كلمة هامسة، لكن الحرف في حلقه يشيخ ، ككن قلبه الأخضر لا زال يدق للجمال والحب، فهو الشيخ العاشق، والفيلسوف الحكيم، وهو الهائم في مجرة الكون يتغيا سكينة / ابتسامة / تحقق حلم الأطفال في الغناء، وهو عبر هذه الإشاريات يحيلنا إلى تعاطفية مع حالته الشفيفة؛ التى شواها البُعَادُ، فرأيناه يتوق إلى قُبْلُةٍ دافئةٍ؛ ولكنها بعدت كثيراً، باعدها الشيب والوقار، من جرّاء البعاد، فرأيناه قد نسى الثغر ولهيب القُبلة التى يتشهاها ، وهى مرموزات لللدلإلة إلى امتداد حالة الحزن، والإضطراب التى أصبح عليها .

كما نلمح بلاغة الصورة الهامسة، الرامزة لحاله وللحياة ، فهو هنا يتذكر أيام الصبا ، وليت الشباب يعود يوماً ، ليعود ظامئاً للحب بعد أن صادفه في هذه الفترة التى ظن أن الحب والغرام واللقاء قدجافاه فيها، فإذا به يظل – رغم كل شىء – العاشق الولهان، يتشهًّى حباً لا يجىء ، لذا فإن الذكرى ملاذ الشيخ، والحاضر الأشهى ؛هو امتداد وزاد لدية لِتًقَوّت الحياة من جديد ، يقول :

أُفتِّشُ الآن

عَنْ مَقْهى حِكايَتِنا،

عن ياسمينٍ

على شَهْقَاتِنا نَبَتَا

وعن بقايَا اشْتِعَالٍ

بَعضِ قُبْلتِنَا

وقد نَسِينَا هُنَاكَ الثَّغر والشَّفةَ.

وفى النهاية : يظل الشعر في السنغال بحيرة دفء، وواحة بوح، وزمردة أشهى للجمال الإنسانى الممتد عبر الكون والعالم والحياة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى