وطنيات
قصة السرب 36 قاذفات.. نسور الجو
أسماء صبحي
5 يونيو 1967؛ يوم لا ينساه أي مصري ما بقيت مصر، ففي هذا اليوم تعرضت البلاد لأكبر هزيمة عسكرية في تاريخها، وكانت القوات الجوية هي الأكثر تضررًا جراء الهجمة الإسرائيلية الشرسة و المعدة مسبقا.
ففي هذا التاريخ تم تدمير الطائرات الحربية المصرية وهي رابضة في مطاراتها، وكان أحد الطرز الذي تعرض للتدمير في مطارات الأقصر وبني سويف قاذفة الصواريخ السوفيتية من طراز “تى يو 16 كى أس”.
خطة الرئيس السادات
و مع بدايات عام 1971 تولدت الفكرة فى رأس الرئيس محمد أنور السادات للحصول على سلاح استراتيجى بعيد المدى ليتمكن من قصف أهداف فى العمق الأسرائيلي.
ولما كان لسلاح الجو المصري خبرة في استعمال قاذفة القنابل السوفيتية تى يو 16، قرر السادات الحصول على الجيل الثاني من قاذفات الصواريخ تى يو 16 كي 11 16 التي لم يسبق للاتحاد السوفيتي أن دفع بها في أي معركة حقيقية من قبل.
و بالفعل وصلت 10 طائرات من طراز تي يو 16 كى 11 16 في شهر نوفمبر عام 1971 إلى قاعدة أسوان الجوية بقيادة أطقم سوفيتية، وكان الاختبار الصعب هو اختيار أطقم الطيارين والملاحين المصريين الذين سيقوموا بقيادة تلك القاذفة الحديثة.
وقد أوكل الرئيس السادات المهمة للواء طيار محمد حسني مبارك قائد القوات الجوية حينئذ، بما أنه سبق له وأن قاد هذا الطراز بالذات فضلاً عن درايته الكاملة بإمكانيات الطيارين و الملاحين بأسراب القاذفات المختلفة.
تشكيل السرب 36
و تم تشكيل السرب 36 قاذفات صواريخ التابع للواء الجوى 403 قاذفات برئاسة المقدم طيار (وقتئذ) محمد عثمان الجندى، لواء طيار متقاعد لاحقًا، وقبالة حرب أكتوبر تم نقل تبعية السرب 36 إلى هيئة عمليات القوات المسلحة مباشرة ليسمى السرب 36 قاذفات صواريخ مستقل.
وتم اختيار 12 قائد طائرة (كابتن) على النحو التالي:
1. رائد طيار / أحمد سمير سيد أحمد – قائدا للسرب (لواء طيار متقاعد)
2. رائد طيار / محمد رؤوف حلمي ( مقدم طيار و قائد السرب فى حرب أكتوبر و لواء طيار متقاعد حاليًا)
3. رائد طيار/ محمد طموم (عميد طيار متقاعد)
4. رائد طيار/ فاضل فتحي ( عميد طيار متقاعد و استشهد بعد عمله طيارًا بشركة مصر للطيران في حادث تحطم الطائرة ايرباص 300 في الأقصر في مطلع الثمانينات).
5. رائد طيار/ جورج وديع أدمون الجاولي ( عقيد طيار لاحقًا استشهد أثناء التدريب في أكتوبر 1979)
6. رائد طيار/ أحمد صادق الجواهرجي (لواء طيار متقاعد)
7. رائد طيار/ محمد عبد الوهاب كريدي (عقيد طيار استشهد أثناء التدريب بالذخيرة الحية في 1 سبتمبر 1975)
8. رائد طيار/ يوسف كمال رحمي (لواء طيار متقاعد)
9. رائد طيار/ أحمد مصطفى محمد حسن (لواء طيار متقاعد توفي في 4/6/2005)
10. رائد طيار/ حمدى صابر الحلواني ( مقدم طيار لاحقا استشهد أثناء التدريب في أكتوبر 1979)
11. رائد طيار/ أحمد شوقى عبد المجيد أبو العلا (لواء طيار متقاعد)
12. رائد طيار/ عبد الحميد محجوب (لواء طيار متقاعد)
13. رائد طيار/ عادل عزت غيضان (عميد طيار متقاعد)
و كان من بين الملاحين:
1. رائد ملاح/ محمد عبد الحميد سرور (لواء ملاح متقاعد و كبير ملاحي السرب في حرب أكتوبر)
2. رائد ملاح/ حمدي شعبان (لواء ملاح متقاعد)
3. نقيب ملاح/ سمير عبد الفتاح (رائد ملاح استشهد أثناء التدريب بالذخيرة الحية في 1 سبتمبر 1975)
4. نقيب ملاح/ يحيى صابر (عميد ملاح متقاعد)
و من بين الطيارين المساعدين (طيار ثان):
1. نقيب طيار/ نبيل صلاح سعده (عميد طيار متقاعد وطيار بشركة مصر للطيران حاليًا)
2. نقيب طيار/ محمد أحمد (لواء طيار متقاعد)
3. نقيب طيار/ مصطفى كامل عبد الوهاب (عقيد طيار متقاعد)
بداية التدريبات
والعديد من مشغلي المدفع الخلفي واللاسلكي ممن لا تسعف الذاكرة بتذكر أسمائهم، ولدى وصول الطائرات إلى قاعدة أسوان الجوية بدأت طلعات التدريب تتم في سرية تامة وعلى ارتفاعات منخفضة جدًا كانت تصل في بعض الأحيان إلى 50 متر فوق سطح الأرض، وهو ما أذهل الطيارين السوفييت الذين لم يتمكنوا من الطيران بها لأقل من مائة متر.
وكانت طلعات التدريب من المشقة والخطورة بحيث كانت أطقم الطيارين تتصبب عرقًا بعد كل طلعة حتى في أيام الشتاء الباردة، وكان الهدف من التدريب على الطيران بهذا الارتفاع المنخفض جدًا هو الابتعاد عن مجالات الرادارات الإسرائيلية حتى الوصول إلى نقطة الارتفاع لعدة آلاف قدم ليتمكن الطاقم من عملية التصويب عن طريق كمبيوتر (بدائي نسبيا بالمقارنة بوقتنا الحالى) على الهدف ثم إطلاقة ثم الهبوط السريع للبعد عن أعين الرادرات والمقاتلات المعادية.
و كانت طلعات التدريب تتم فى الصحراء الغربية على البحر المتوسط ليلًا ونهارًا لتمثل مراّة لما حدث في حرب أكتوبر، وكانت القاذفة تشتمل على مدفع خلفي مزدوج مهمته إطلاق طلقات عيار 30 مم إلى الخلف، والتى تنفجر بدورها على بعد معين من القاذفة فى اتجاه المقاتلات المطاردة مولدة مادة معدنية أشبه ببرادة المعادن تقوم بالشوشرة والتشويش على رادار التصويب للمقاتلات المطاردة لتمنعها من إطلاق صواريخ جو جو على القاذفة.
وكانت القاذفة تى يو 16 كى 11 16 تحمل نوعين من الصواريخ يحملان الاسم نفسه (AS5 Air to Surface) ولكن مهمتهما مختلفة، فالصاروخ K11 مهمته قصف محطات القيادة والسيطرة والشوشرة على الرادارات عن طريق إدخال تردد أو الشفرة المنبعث من تلك المحطات إلى جهاز الكمبيوتر الخاص بالتصويب وينفجر الصاروخ بمجرد ارتطامه بالهدف.
والنوع الثانى هو الصاروخ K2 و مهمته قصف أهداف أرضية مختلفة وتجمعات للعدو و ينفجر الصاروخ على مسافة تتراوح بين 15 و 20 متر من الهدف محدثًا انفجار شديد.
سرية المهمة
ولأن هذا الطراز كان الوحيد من نوعه لدى الجيش المصري الذي يمكنه قصف أهداف في العمق الإسرائيلي، فقد أحيط وجوده بالسرية التامة المطلقة حتى أن اسرائيل لم تعلم بدخول تلك القاذفة الخدمة بالسلاح الجوى المصرى إلا يوم 6 اكتوبر.
ويروى اللواء طيار متقاعد أحمد مصطفى محمد حسن رحمه الله، قصة تمثل مدى السرية والإيمان لدى رجال هذا السرب، فيقول إنه كان فى طلعة تدريية ليلية فى أواخر عام 1972، وعند العودة للهبوط في قاعدة أسوان الجوية تم إعلامه عن طريق برج المراقبة بأن الممر مغلق نظراً لانفجار إطارات إحدى الطائرات أثناء الهبوط، وأن عليه اختيار مطار آخر للهبوط كمطار الأقصر.
لكنه فضل الهبوط فى مطار “دراو” القريب من أسوان على الرغم من أنه غير مجهز للهبوط الليلي وذلك لنقص الوقود في قاذفته من ناحيه، ومن ناحية أخرى بهدف إخفاء المقاتلة حيث قام بعد الهبوط بالذهاب لنقطة وقوف معينة وأصر أن يوقف القاذفة بين الأشجار كي لا يتمكن أحد من اكتشاف نقاط تعليق الصواريخ.
نقل الصواريخ
وفي صيف عام 1973 تقرر إعادة تمركز السرب 36 في قاعدة غرب القاهرة الجوية، استعدادًا للمعركة الفاصلة، وتم نقل الطائرات إلى هناك وبقت المشكلة فى كيفية نقل الصواريخ.
ففى حالة نقل الصواربخ من أسوان إلى غرب القاهرة على عربات قطار أو شاحنات، فقد تسنح الفرصة لعيون العدو برؤية تلك الصواريخ أو تصويرها مما يهدد بإفشاء سر وجود القاذفة، و تفتق ذهن هيئة عمليات القوات الجوية حينئذ عن فكرة نقل الصواريخ بدون وقود وهي معلقة بالقاذفات مع آخر ضوء.
و بالفعل قام قائدو الطائرات بنقل الصواريخ فارغة وهي معلقة بقاذفاتهم مع آخر ضوء وعلى ارتفاعات منخفضة من أسوان إلى غرب القاهرة خلال عدة اسابيع، حتى كان بعضهم يقوم بعدة طلعات جوية يومياً من أسوان الى غرب القاهرة.
الضربة الجوية الأولى
وأوشكت المعركة على البداية، ففى يوم 4 أكتوبر 1973 قام اللواء طيار/ محمد حسنى مبارك بزيارة إلى قاعدة غرب القاهرة الجوية ليعلم السرب بالخطة، واجتمع بقائدوا القاذفات والملاحون الأوائل ليطلعهم على التفاصيل حيث أن طلعة القاذفات تحتاج إلى إعداد مسبق.
وجاءت لحظة توزيع الطلعات فى الضربة الجوية الأولى، و تعالت الأصوات في قاعة محاضرات قاعدة غرب القاهرة الجوية، الطيارون يتنافسون على توزيع الأدوار والأهداف فكل منهم كان على أتم استعداد وينتظر المعركة بفارغ الصبر ليفرغ حمولة الأيام الغبراء أيام نكسة 1967 على رؤوس الأعداء.
واختار قائد القوات الجوية 7 طلعات للضربة الجوية الأولى لتدمير “أم مرجم” و ”أم خشيب” و ”أم مخسه” و ”بير العبد”، وبلغت براعة المخابرات الحربية حد الحصول على الشفرة التبادلية الخاصة بمحطات القيادة والشوشرة والسيطرة والرادارات.
و حانت اللحظة الحاسمة، ظهر السادس من أكتوبر 1973، واتجه أطقم قاذفات الصواريخ نحو طائراتهم يدفعهم الإيمان و تملاؤهم روح المعركة، كلٌ اتخذ مكانة، الأطقم مربوطة (يرتدون أحزمة الأمان عل الكرسى القاذف) داخل القاذفات ومستعدون للضربة الجوية التى سوف تتم منذ الإقلاع إلى الهبوط بدون استخدام اللاسلكي، مجرد المذياع الداخلي لكل قاذفة.
الشفرة كانت موجودة في الخزينة الخاصة بقائد السرب المقدم طيار/ محمد رؤوف حلمي، فتم نقل الخزينة من المكاتب إلى مكان حظائر القاذفات، والمقدم طيار / رؤوف حلمي قائد السرب يهبط من قاذفته ويفتح الخزينة ويمسك بالمظروف المغلق بالشمع الأحمر الوارد من المخابرات الحربية ويفض المظروف ليجد الشفرة الخاصة بالأهداف المراد قصفها.
و تتعالى الهتافات الحماسية، الطيارون و الملاحون الغير مكلفون بالضربة الجوية الأولى يكتبون الشفرة على سبورة سوداء بالطباشير، وتتحرك القاذفات نحو رأس الممر للاقلاع، وكل قائد ينظر إلى الشفرة على السبورة ويكتبها ربما على أفرول الطيران الذى يرتديه ثم يشير بأصبعة مؤكدًا حصوله على الشفرة.
بدابة المعركة
وتبدأ القاذفات فى الإقلاع الواحدة تلو الأخرى بدون أي توجيه من برج المراقبة و بدون استعمال اللاسلكي إلى العلا في سبيل المجد، والطريف فى هذا كما ذكر الرئيس الراحل مبارك فى أحد أحاديثه أنه كان فى غرفة عمليات القوات الجوية وقتئذ وسمع المراقب الجوي فى غرب القاهرة يعلن عن قيام بعض القاذفات بالتحرك والإقلاع دون إذن (للسرية) فطلب من رئيس عمليات القوات الجوية اللواء طيار / صلاح المناوى إسكات مذياع برج المراقبة لعدم كشف إقلاع القاذفات.
وقامت القاذفات بقصف أهدافها و العودة سالمة بعد تدمير جميع الأهداف مما أمكن القوات من عبور القناة إلى أهدافها، وتوالت الطلعات خلال الشهر لتدمير رادارات سانت كاترين والطاسة وتجمعات العدو في الثغرة و غيرها.
ويذكر التاريخ أن كافة قاذفات هذا السرب عادت إلى القاعدة سالمة، وكان كل قائد قاذفة يبلغ برج المراقبة باقترابة من القاعدة بدون ذكر أسمه أو رقم طائرته معتمدًا على معرفة أفراد البرج على أصوات الطيارين.
وكُتب للسرب 36 قاذفات صواريخ أن يكون أحد التشكيلات فى القوات المسلحة التي بلغت فيه نسبة الخسائر في المعدات و الأرواح صفر، وبلغت دقة إصابته للأهداف 98%.