وطنيات
قصة الكمين الأسطورة الذي اصطاد قائد قوات العدو الصهيوني
أسماء صبحي
وقع الكمين يوم 15 ديسمبر 1969 في الثانية عشر والنصف ظهراً، لمقاتلين من الكتيبة 43 صاعقة بقيادة ملازم أول حمدي الشوربجي، والملازم أول معتز الشرقاوي، والملازم ناصر قدري شيرازي، وكأن المصريون أبوا إلا أن يكونوا مختلفين في استراتيجيتهم العسكرية عن كل جيوش العالم، فالمعروف عسكرياً أن الضربة الأولى تكون دائماً عند الفجر ولكننا فعلناها ظهراً.
فمن المعروف عسكرياً أيضاً أنك عندما تريد أن تنصب كميناً لعدوك فإنك تنصبه ليلاً حتى لا ترصدك دفاعاته ويضيع منك عنصر المفاجأة، حيث أن أي شيء وكل شيء يمكن أن يتم ظهراً إلا شيئاً واحدًا وهو أن يتم عمل كمين للعدو ظهراً في أرض يحتلها ويسيطر عليها وموجود بها، وهنا الجرأة والشجاعة، وهنا يكون هذا الكمين الغير مسبوق في أي حرب، لأن القيام بعمل مثل هذا إما أنها جرأة لا وجود لها وشجاعة لم يسمع أحد عنها أو أنها عملية انتحار لا محالة عنه لإثبات أشياء لا وجود لها.
بداية العملية
والذي يستحيل أن يفكر فيه أي قائد عسكري هو نفسه ما قررت القيادة العسكرية المصرية القيام به، وبدأت العملية بمعلومات مؤكدة عند القيادة العسكرية المصرية بوجود زيارة للجبهة من رتبة عسكرية كبيرة للعدو لمنطقة في شرق القناة تقع في نشاط الجيش الثالث بين الشط والجباسات.
وقام المقدم أركان حرب صالح فضل، قائد مجموعة الصاعقة آنذاك باستدعاء النقيب أحمد شوقي قائد الكتيبة 43 صاعقة، وأبلغه المعلومات وأيضاً القرار، وفي الحال بدأ الإستعداد والتدريب بمنطقة مشابهة في بير عديب (قبل العين السخنة بمسافة 14 كيلومتر)، فالمنطقة التي سيتم فيها الكمين عبارة عن أرض مفتوحة وفيها طريق مهم يستخدمه العدو ومطلوب عمل الكمين للزيارة المستهدفة على هذا الطريق.
خطة الكمين
وكان التدريب على عملية الكمين وفق التخطيط أن تحتل قوة الكمين أماكن على جانب هذا الطريق وعلى مسافة 15 متر على جانبيه، والمطلوب أن يكون أفراد هذا الكمين هم والأرض واحد، أي لا تظهر شعرة من أي مقاتل مصري لأن العدو يستطلع يومياً الجبهة على طول امتدادها (168 كيلومتر) بطائرات استطلاع تقوم بتصوير الأرض وترسلها مباشرة إلى قيادتها التي تقرأ الصور، ولو هناك أي أثر لأي شيء مختلف فتتحرك فوراً قوات مدرعة للمكان وتفتشه وهذا معناه انكشاف العملية كلها.
ومعناه أيضاً أن على الكمين الذي سيدخل إلى الشرق ألا يترك أثر واحد خلفه، وعليه أن يحتل مواقعه في باطن الأرض أو وسط النباتات الصحراوية التي يصل بعضها إلى حجم الأشجار، وفي كل الحالات مطلوب عمليات تمويه تجعل العدو لا يشعر للحظة بأن إنساناً واحداً موجودأ بهذا المكان.
وانتهى التدريب الذي ضم مجموعتين؛ الأولى قوة الكمين بقيادة الملازم أول معتز الشرقاوي ومعه مقاتلين، والمجموعة الأخرى مجموعة الستر بقيادة الملازم أول حمدي الشوربجي ومهمتها ستر وحماية مجموعة الكمين خلال الذهاب والعودة.
وكان مكان الكمين على بعد 6 كيلومترات من القناة، والمهمة هي عبور المقاتلين للقناة في يوم 14 ديسمبر ليلاً وتسللهم إلى داخل سيناء تحت ستار الظلام، أما مجموعة الستر فهي تحتل موقعها في باطن الساتر الترابي وكل مقاتل يحفر لنفسه حفرة يدخل فيها ويتم تمويهها جيداً، ومن أهم بنود التمويه ألا تبقى حبة رمل من ناتج الحفر ظاهرة وذلك لأن لون الرمل المحفور يكون مختلف عن رمل السطح وهذا يعرض المكان للكشف من قبل استطلاعات العدو.
تنفيذ الكمين
مجموعة الكمين تتقدم إلى عمق سيناء ستة كيلومترات والمسافة تطول لأنها لا تذهب مباشرة إلى مكان العملية إنما تتجه إلى يمين مكان العملية بحوالي كيلومتر في إتجاه الجبل حتى تكون آثار الأقدام متجهة نحو الجبل إذا ما حاول العدو تتبعها.
وصلت مجموعة الكمين مكانها المحدد بعد ساعتين ونصف الساعة من عبور القناة والساعة وقتها الثانية والنصف بعد منتصف الليل، وتم دفن عبوات المتفجرات وتمويه أماكن دفنها وبدأت عملية توصيل الأسلاك ما بين العبوات المتفجرة المدفونة والسلك المدفون وفي حالة ظهور السلك لأي سبب فهو من نفس لون الأرض.
أما مكان الكمين فتم اختياره عند منحنى في الطريق، وذلك لأن أي سيارة تهدئ من سرعتها عند عبورها لأي منحنى وهذا يسهل مأمورية الكمين في التعامل مع الهدف المتحرك، وانتهت مجموعة الكمين من عملها ومن احتلال أماكن تمركزها مع إجراء التمويه الكامل الذي يجعل المقاتلين التسعة جزءً من الأرض يستحيل كشفه.
ويقترب الوقت من الرابعة فجراً، ومجموعة الكمين التي يقودها الملازم أول معتز الشرقاوي عليها أن تبقى حيث هي في سكون تام دون أدنى حركة إلى أن يأتي الهدف المقرر وصوله بعد الحادية عشر صباحاً، ومعنى هذا أنه مفروض عليها عدم الحركة – أدنى حركة – لمدة لا تقل عن سبع ساعات متتالية وربما تزيد.
وكان الغذاء عبارة عن قالب شيكولاتة والمياه في زجاجة بلاستيك أشبه بالبزازة الخاصة بالأطفال ليأخذ بضع نقاط في فمه، وذلك لأنهم في الشتاء والعرق أقل والإخرج عن طريق البول أكثر والأفضل ألا يحدث، وهذا ما يتدرب عليه المقاتلون في العمليات الخاصة وقدرتهم على أن يتحكموا في أنفسهم لساعات وساعات.
انتظار التنفيذ
الوقت تقريباً لا يمر والمقاتلون في كمينهم غير المسموح فيه بالهمس وليس الحركة، والليل قد بدأ في الرحيل وبدأ نور السماء يظهر وأشعة الشمس أخذت طريقها إلى الأرض التي أصبحت أشبه (بديب فريزر) في هذا الوقت من العام حيث البرودة القاتلة والإحساس بها يتضاعف نتيجة عدم الحركة، ومع أول ضوء ظهرت في السماء طائرة الاستطلاع التي تمسح المنطقة يومياً ورحلت الطائرة دون أن تكشف الكمين ولا مجموعة الستر في الساتر الترابي.
وبعدها بساعة ظهرت هليكوبتر ولم تلحظ شيئاً أيضاً، الوقت يمر بطيئاً والمقاتلون تجمدت أطرافهم تقريباً من البرد والكل في حالة تأهب لأن أحداً لا يعرف ماذا يمكن أن يحدث في أي لحظة، وعلى المقاتلين أن يكونوا مستعدين للأشتباك الفوري دفاعاً عن أنفسهم في أي ثانية لأنهم لا يرون ما يدور حولهم وكل ما ينتظرونه في الكمين معلومة باللاسلكي من مجموعة الساتر التي تكشف المنطقة بأسرها.
أما المعلومة فقد كانت عبارة عن كلمة واحدة فقط ومشفرة أيضاً، حيث إذا جاءت قوات العدو على الطريق تجاه الكمين من جهة الشمال يقوم قائد مجموعة الستر بإبلاغ الملازم معتز الشرقاوي باللاسلكي بكلمة واحدة فقط هي (هالة)، أما إذا كان الهدف قادم من إتجاه الجنوب تكون الكلمة هي (سامية).
ساعة الصفر
ومرت ثمان ساعات ونصف الساعة ومجموعة الكمين صامتة، ساكنة لا يصدر عنها أدنى حركة تنتظر الفرج الذي جاء والساعة تقترب من الثانية عشر والنصف ظهراً وقد جاء في صورة ثلاث كلمات قالها الملازم حمدي الشوربجي وهي “حمدي ينادي: سامية”، وكان هذا معناه أن الهدف يتحرك في سيارة قادمة من اتجاه الجنوب، وبالفعل يقترب صوت سيارة جيب مكشوفة تحمل الجنرال (كافيتش) قائد القطاع الجنوبي لجبهة سيناء يجلس إلى جوار السائق وفي الخلف اثنين من الحرس.
وتقترب السيارة من مكان الكمين وعند المنحنى هدأت السرعة وعندما دخلت السارة مجال نقاط المتفجرات تم انفجار العبوات الناسفة المزروعة على الطريق ولكنها لم تؤثر على السيارة، وفي لحظة أنشقت الأرض ومن باطنها خرج المقاتلون التسعة وفتحوا نيران أسلحتهم على السيارة لتخرج عن الطريق وتنقلب وفي لحظة كان الرجال فوقها فوجدوا الجنرال والسائق والحرس قد قتلوا.
أما معتز الشرقاوي فقد حصل على كل الوثائق الخاصة بالجنرال والموجودة بالسيارة، وقام بتجريد الجنرال من الرتب العسكرية التي يضعها على كتفيه وأخذها معه، وانتهت المهمة بنجاح، ولكن على مجموعة الكمين أن تعبر إلى الضفة الغربية بسلام، ستة كيلومترات مطلوب قطعها في أرض مكشوفة يحتلها العدو وعقب عملية راح فيها قائد الجبهة وثلاثة جنود والساعة الواحدة ظهراً.
خطة العودة
وكانت الخطة أن يقوم المدفعية المصرية لحظة سماعها لتفجير المتفجرات على الطريق أن تقوم بقصف فوري لشغل العدو عن الكمين ولخداع العدو عن حقيقة ما حدث للسيارة الجيب وركابها، فالمدفعية تضرب مربع ناقص ضلع وكل 50 متراً تنقل النيران للخلف تجاه الغرب حتى يتسنى للمجموعة أن تهرب وتمنع أي مجموعة من مجموعات العدو باللحاق بها.
أما الضلع الناقص فهو الذي تتحرك فيه مجموعة الكمين، ولأن المدفعية تنقل النيران كل 50 متراً، فالمطلوب من المقاتلين التسعة الجري بأقصى سرعة حتى لا تطولهم دانات المدفعية المصرية التي تحمي رجوعهم شرط أن يقطعوا الكيلومترات الستة في أسرع وقت قبل أن يبدأ أي هجوم مضاد للعدو بطائرات أو مدفعية أو مدرعات.
أما مجموعة الساتر فقد كانت مهمتها هي توجيه مجموعة الكمين في عودتها والتنسيق مع المدفعية في تحضيراتها، وما إن وصل المقاتلون التسعة إلى مسافة 100 متر من الساتر الترابي حتى رفعت المدفعية ضربها وتوقفت داناتها وتحركت مجموعة الكمين مع مجموعة الساتر نحو القناة وما أن لمسوا مياهها حتى تأكدوا أن العملية نجحت وبدون خسائر أيضا.
وفي اليوم التالي أعلن العدو نبأ وفاة الجنرال لكنه لم يذكر التفاصيل لأنها لا يمكن أن تذكر، فأي حرب يمكن أن ينصب فيها الكمين نهاراَ وسط قوات العدو ويعود سالماً من أرضه وسط قواته بدون أن يصاب بأدنى سوء، ولم يحدث هذا في أي حرب بأي مكان لكنه حدث عندنا، لأن عندنا خير جند الأرض.