المزيد

تاريخ الحروب الصليبية … (81) 

تاريخ الحروب الصليبية … (81)

History Of Crusades

———————————————————————-

رتب عماد الدين زنكي بيته الداخلي، وأسس دولته على بنيان صلب، واطمـأنَّ إلى الأوضاع في داخل الموصل، ومن ثَم بدأ ينظر إلى خارجها عازما على توحيد الأُمة في كيان كـبير يستطيع أن يصمد أمام الصليبيين.

———————————–

ولما كان عماد الدين زنكي واقعيا، وكان يحسن تقدير قوته وقوة عدوه، فإنه أدرك أنه في هذه المرحلة لا يقْوى على قتال إمارة الرها القريبة منه ، وكان في نفس الوقت يريد أن يتفـرغ لتوحيـد الإمارات الكثيرة المتناثرة حول الموصل، ومن هنا قرر أن يعقد هدنة مع إمارة الرها لمدة سنتين .

 

وقد كان واضحا جدا أن الاتفاقية محددة بفترة زمنية معينة؛ لأنه لا يستطيع بحالٍ أن يعقد اتفاقية سـلام دائم مع عدو يحتلُّ أرض المسلمين، ومن هنا دلَّل على أنه يجمع بين الفقه العسكري والفقه الـديني ، وهذا ما ميزه عن بقية زعماء عصره.

 

ولما عقدت هذه الهدنة المهمة فكَّر عماد الدين زنكي مباشرة في ضم المدينة العظيمة حلب،

 

وقد تحدثنا قبل ذلك عن أهمية حلب الإستراتيجية والعسكرية والسياسية والاقتصـادية والبشـرية،

 

إضافةً إلى أن حلب كانت متحدة قبل ذلك في زمان آق سنقر البرسقي مع الموصل تحـت حكـم السلطان السلجوقي محمود، فالوحدة بينهما منطقية وقانونية، وليس من المفترض أن يكـون هنـاك خلاف على توحيدها مع الموصل، هذا إضافةً إلى أن القاعدة الشعبية لعماد الدين زنكي هناك قوية؛

 

وذلك لذكريات أبيه العادل قسيم الدولة آق سنقر الحاجب، الذي قُتل منذ أربعٍ وثلاثين سنة وهـو يدافع عن حلب ضد تتش بن ألب أرسلان.

 

لكن عماد الدين زنكي – مع رغبته في ضم حلب – لم يشأ أن يقْدم على هذه الخطوة قبل أن يقوم بإجراءين رئيسيين:

 

أما الإجراء الأول :

—————————

فهو تأمين الحدود الشمالية والشمالية الشرقية للموصل، وكان قد أمـن حدودها الجنوبية قبل ذلك بضم البوازيج وجزيرة ابن عمر كما مر بنا، وهذا التأمين يضـمن لـه الحركة الآمنة في اتجاه الغرب ناحية حلب.

 

وكانت هذه المناطق مستقَرا لقبائل الأكراد الكثيرة، وكانت أقرب هذه القبائل للموصل هي قبائل الأكراد الحميدية والأكراد الهكارية، وكانوا في هذه الفترة يكَونونَ فرقًا مسلَّحة تغير علـى مزارع وقرى الموصل الشرقية، وبالتالي يثيرون الذعر بين الفلاَّحين و مواطني الموصل؛

 

ومن ثَم توجه إليها عماد الدين زنكي بفرقة من جيشه.

 

ومع كون الفارق هائلاً بين قوة عماد الدين زنكي وجيشه النظامي وبين هذه القبائل المتفرقة، إلاَّ أن عماد الدين زنكي رحمه الله كان حريصا طيلة حياته علـى الاستفادة من كل الطاقات من حوله،

 

وكما وظَّف جاولي لصالحه قرر أن يوظِّـف الأكـراد – إن استطاع – لخدمة دولته الناشئة، وقد أقدم على هذه الخطوة على الرغم من التاريخ السـيئ لهـذه التجمعات، لكنه كان دائما – رحمه الله – يسعى إلى الإصلاح وإلى الوحدة. ”

————————————————————————

إجتمع عماد الدين زنكي رحمه الله مع زعيم الأكراد الحميديين الأمير عيسى الحميدي، وفي هذا الاجتماع أقره على ولايته على الأكراد، وترك له كل ما في يده، في مقابل أن يصبح تابعا لإمارة الموصل ، وبالتالي لا يغير على الإمارة، إضافةً إلى الاستعانة به ضد الصليبيين إذا لزم الأمر .

 

ولا شك أن عيسى الحميدي أدرك قوة عماد الدين زنكي، وعلى الرغم من أن هذه القبائل كانت كالميليشيات العسكرية الخاصة إلاَّ أنهم أدركوا أنه من الأسلم لهم – على الأقلِّ في هذه المرحلـة – أن يخضـعوا لسلطان عماد الدين زنكي.

 

وهكذا ضمت قوة الأكراد الحميدية إلى قوة الموصل، أو على الأقلِّ حيدت.

 

وعندما نجحت خطَّة عماد الدين زنكي رحمه الله مع الأكراد الحميدية اتجـه مباشـرة إلى الأكراد الهكارية، وعقد نفس الاتفاقية مع أبي الهيجاء الهكاري زعيمهم

، وبـذلك أمـن الحـدود الشمالية والشمالية الشرقية تماما.

 

وهكذا نجح عماد الدين زنكي بجهود دبلوماسية في أن يقر الأوضاع في الموصل وما حولها، وبالتالي أفرغ ذهنه لقضية حلب.

 

كان هذا هو الإجراء الأول – وهو تأمين الحدود الشمالية والشمالية الشرقية – قبل الاتجاه غربا إلى حلب.

 

أما الإجراء الثاني فهو :

——————————–

التمهيد الإعلامي والعسكري لفكرة قدومه إلى حلب؛ حتى يتجنـب حدوث صدام قد تراق فيه الكثير من الدماء المسلمة.

وكان التمهيد الإعلامي الذي قام به هو إرسال الرسل من طرفه إلى حلب فتسلَّلوا إليهـا، وتحدثوا مع الناس في مساجدهم ومجتمعاتهم بأحقِّية عماد الدين زنكي في حكم هذه المدينة المهمة .

 

فهو الذي ارتضاه لهم السلطان محمود سلطان السلاجقة والقوة الأُولى في العالم الإسلامي آنذاك، وهو المجاهد الصلب الذي يستطيع أن يقف في وجه الصليبيين، وهو الحاكم العادل الذي سيقر السلام في داخل حلب، ويعيد الحقوق لأصحابها، وهو ابن آق سنقر الحاجب الذي توارث أهلُ حلب الرحمة عليه

 

لقد كان عماد الدين زنكي يهدف من وراء هذا التمهيد أن يجعل قدومه على حلب مطلبا شعبيا، خاصةً أنه يعلم أن قتلغ أبه وإبراهيم بن رضوان كليهما من الفاسدين، وأن سليمان بن عبـد الجبار الأرتقي ضعيف، وأن أهل حلب لا يريدون أحدا منهم، فإذا كان البديل هو عمـاد الـدين شخصيا فلا شك أن هذه ستكون فرصة طيبة للشعب هناك.

 

ولقد نجحت خطَّة عماد الدين زنكي تماما، وانتشر دعاته بين الناس، وصار الناس يترقَّبـون اليوم الذي يظهر فيه عليهم.

 

أما التمهيد العسكري فقد قام به عماد الدين زنكي عن طريق إرسال رأس جيشه صـلاح الدين الياغيسياني، الذي درس الأوضاع حول حلب، وأمن الطرق، وتراسل مع بعض الأفراد مـن جيش حلب، ومهد الأوضاع لاستقبال القائد العظيم عماد الدين زنكي .

 

وعندما تيقَّن عماد الدين زنكي من أن الظروف أصبحت مناسبة في حلب، تحرك إليها مـن الموصل على رأس فرقة قوية من جيشه، وفي طريقه ضم مدينتي بزاغة ومنبِج، وهما مدينتان في شرق حلب تماما ؛

وذلك لتأمين خطِّ رجعته إن فشل في دخول حلب، ثم اقترب بعدها من حلب، وهنـا حدثت المفاجأة السارة !

 

لقد خرج شعب حلب من المدينة؛ ليكون في استقبال عماد الدين زنكي، مرحبِين به أشـد الترحيب، ومعلنِين ولاءهم الكامل له، بعد معاناتهم الفترة السابقة تحت حكم هذه المجموعـة مـن الفاسدين.

 

وإزاء هذه المظاهرة الشعبية الرائعة لم يجد إبراهيم بن رضوان ولا سليمان بن عبد الجبار بدا من الهرب من المدينة دون قتال، بينما أمسك الشعب بقتلغ أبه، وقُتل جزاءً وفاقًا للأرواح الكثيرة التي أزهقها فترة حكمه .

 

وهكذا دخل عماد الدين زنكي مدينة حلب دون إراقة دماء وفي وسط ترحيب شعبي عارم، وتتوحد بذلك مدينتان من أهم مدن المنطقة، وهما الموصل وحلب،

 

ولم تكن أهمية هذه الوحدة تعود إلى ازدياد القوة الإسلامية فقط، ولكنها تعود أيضا إلى فصل إمارة الرها عن بقية الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين ، مما سيؤثِّر حتما في مقدراتها وإمكانياتها، وكان هذا الدخول المبارك لحلـب في شهر جمادى الآخرة سنة (522هـ) يونيو 1128م .

 

أي بعد حوالي تسعة أشهر فقط من تسلُّم عماد الدين زنكي مقاليد الحكم في الموصل، وهو بذلك إنجاز رائع في زمن قياسي!

 

وبمجرد دخول عماد الدين زنكي حلب قام بخطوة سياسية رائعة، وهي الزواج من خـاتون ابنة رضوان بن تتش حاكم حلب السابق ؛

 

وكان هذا الزواج سياسيا؛ لأنه بذلك سيهدئ أفئدة بيت رضوان، وأصحاب العلاقات معه. ولا ننسى أن رضوان حكَم حلب عشرين سنة كاملة قبل ذلك، من سنة 487هـ إلى سنة 507هـ،

 

ولا بد أن تكون له علاقات ضاربة في جذور البلد، فضلاً عن

عائلته المستقرة هناك، وكذلك إبراهيم بن رضوان الذي كان يحكم حلب منذ أيـام، وهـرب إلى نصيبين عند قدوم عماد الدين زنكي .

 

لقد كان الملوك والأمراء في ذلك الوقت يثَبتون دعائم ملكهم عن طريـق الـزواج مـن حلفائهم، وأحيانا من أعدائهم؛ حتى يتوثَّق الحلْف بشكل أقوى، أو تزولَ العداوة بشكل طبيعـي،

 

وهذا ما سعى إليه عماد الدين زنكي، وأثمر نتائج طيبةً؛ حيث لم تقم عليه ثورات مطلقًا في داخـل المدينة المهمة حلب.

 

ثم إنه تزامن مع دخول عماد الدين زنكي إلى حلب، أو قبل ذلك بقليل، في نفـس السـنة 522هـ أن مات طغتكين أمير دمشق بعد حكم دام حوالي خمسٍ وعشرين سنة (من سنة 497هـ إلى سنة 522هـ)، وخلفه في الحكم ابنه بوري بن طغتكين بوصية من والده ؛

 

وموت طغتكين سيجعلنا نفتح مع عماد الـدين زنكي ملف دمشق !

 

لا شك أن دمشق هي أكبر مدن الشام مطلقًا، وقوة من القوة المؤثِّرة في مجريات الأمـور، وهي بإمكانياتها البشرية والتاريخية و السياسية والعسكرية تمثِّل محطة مهمة جدا من محطات الصراع مع أي عدو من أعداء المسلمين، وعندما ينصلح حالها ويقوى تصبِح من أثقل النقاط إيجابية في المعادلة،

 

ولكنها على الجانب الآخر عندما يفسد حالها وتضعف تؤثَِّر تأثيرا سلبيا في المنطقة ككل، هذا أمر لا نستطيع أبدا أن نغفله .

 

فماذا كانت أولى خطواته نحو توحيد البلدان الإسلامية ؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى