تاريخ السلاجقة والدانشمند
تاريخ السلاجقة والدانشمند … (17)
——————————————————————-
الحسن الصباح و السلطان ملكشاه
———————————————————————
ملخص ما سبق عن أساليب دعاة الحشاشين
▪︎- يقول ابن الجوزي : إن الثنوية والمجوس أرادوا إرجاع ممالكهم وإبطال الإسلام ولكنهم رأوا ضرورة إخفاء مقاصدهم بالتستر بالإسلام .
▪︎- التستر في الولاء لآل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم
و التباكي علي ما فعل بأهل البيت، كيف قتلوا وكيف سبيت ذراريهم، ونساؤهم ويعيبون الصحابة بالكذب والافتراء .
▪︎- رفع شعار نصرة المستضعفين وتحقيق العدل والإنصاف وقهر الظالمين وإقامة دولة العدالة والإنصاف .
▪︎- التقية :فهم يخاطبون كل فئة بما تشتهي ويقدمون لها وعودا مختلفة ويلزمونها بالسرية.
▪︎- استمالة بعض رجالات الدولة والتنسيق معهم كما استمالوا البساسيري فأسقط الدولة وقبض على الخليفة.
▪︎- استخدام الإرهاب والعنف والهجمات المسلحة ضد الخصوم .
———————————————————————
السلطان ملكشاه يرسل رسالة إلى زعيم الحشاشين حسن الصباح
كانت سياسة ملكشاه تجاه حركة الحسن الصباح تتراوح بين المهادنة لهم حيناً، ومقاومتهم حيناً آخر، فعندما استولى الحسن الصباح على قلعة الموت في عام 483ﻫ وانتشر فدائيوه يغتالون الآمنين، أرسل له ملكشاه الإمام أبو يوسف يعقوب بن سليمان لمناظرتهم وكان يعقوب فقيهاً عالماً بالأصول على مذهب أهل السنة ، ..
ولكن يبدو أن هذه المناظرة لم تحقق الهدف الذي تطلع إليه ملكشاه من محاولة إقناعهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن ثم لجأ إلى العمل المسلح فأرسل الأمير أرسلان طاش سنة 485ﻫ فحاصر قلعة الموت، ولكنه هزم،
كما أرسل في العام ذاته أحد قواده فحاصر قلعة ” ديرة ” وهي مركز آخر من مراكزهم…
ويبدو أن الباطنية التابعة لحسن الصباح أصبحوا شوكة حتى أن ابن كثير عندما تحدث عن أهم أحداث عام 494ﻫ قال : فيها عظم الخطب بأصبهان ونواحيها بالباطنيّة، فقتل السلطان منهم خلقاً كثيراً، وأبيحت ديارهم وأموالهم للعامَّة، ..
وكانوا قد استحوذوا على قلاع كثيرة، وأوّل قلعة ملكوها في سنة 483ﻫ، وكان الذي ملكها الحسن الصبّاح، أحد دعاتهم، وكان قد دخل مصر وتعلَّم من الزنادقة الذين كانوا بها،
ثم صار إلى تلك النواحي ببلاد أصبهان، فكان لا يدعو إلا غبيَّاً لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز ، حتى يحترق مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له شيئاً من أخبار أهل البيت ويكذب له من أقاويل الرافضة الضَُلال، أنهم ظُلِمُوا ومُنعُِوا حقَّهم،…
ثم يقول له : فإذا كانت الخوارج تقاتل بني أميّة لعلَّي، فأنت أحقُّ أن تقاتل في نصرة إمامك علي بن أبي طالب، ولا يزال يسقيه من هذا وأمثاله حتى يستجيب له، ويصير أطوع له من أبيه وأمَّه، ويظهر له أشياء كثيرة من المخرقة والنَّيرنجات والحيل التي لا تروج إلا على الجهال، حتى التفَّ عليه بشر كثير وجمُّ غفير،
وقد بعث إليه السلطان ملكشاه يتهدده ويتوعّده وينهاه عن بعثه الِفداويّة إلى العلماء ، ..وهذا نص رسالة ملكشاه إلى الحسن الصّباح :
أنت حسن صباح قد أظهرت ديناً وملةّ جديدة فأغريت الناس وخرجت على ولي عصرك، فجمعت حولك بعض سكان الجبال ثم أغويتهم بكلامك حتى حملتهم على قتل الناس وطعنت في الخلفاء العباسيين الذين هم خلفاء الإسلام وبهم استحكم قوام الملك والملّة ونظام الدين والدولة، ..
فعليك أن ترجع عن هذه الضلالة وتكون مسلماً وإلاّ فقد عينت لك جيوشاً وأرجأت توجهها حتى تجييء إلينا أنت وجوابك،
وحذار حذار على نفسك ونفوس تابعيك فأرحمها ولا تلقيها في ورطة الهلاك، ولا تغتر باستحكام قلاعك ولتعتقد حقيقة أن قلعة (الموت) المستحكمة لو كانت برجاً من بروج السماء لجعلتها أرضاً يبابا ولساويتها مع التراب بعناية الله تعالى ،
فلما قرأ الكتاب بحضرة الرسول، قال لمن حضره من
الشباب : إنَّي أريد أن أرسِلَ منكم رسولاً إلى مولاه، فاشر أبَّت وجوه الحاضرين منهم، ثم قال لشاب منهم : اقتل نفسك. فأخرج سكَّيناً فضرب بها غَلْصَمتَه ، فسقط ميِّتاً، وقال لآخر منهم : ألق نفسك من هذا الموضع، فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل خندقها فتَّقطع.
فقال للرسول : هذا الجواب … وجاء في رواية أخبر سيدك أن عندي من هؤلاء عشرين ألفاً هذا حد طاعتهم لي فعاد الرسول إلى السلطان فأخبره بما رأى فعجب من ذلك، وترك كلامهم .
وقد وضعت وفاة ملكشاه في عام 485ﻫ حداً لهذه المحاولات التي قام بها ، و يلاحظ أن ملكشاه لم يبذل في مقاومتهم جهداً يتناسب مع قوته ومكانته فلم يتوجه بنفسه – مثلاً – لحربهم كما فعل في مناسبات كثيرة عندما كان يتهدد دولته خطر من الأخطار، …
كما أنه صم أذنيه عن نصائح وزيره نظام الملك عندما حذره من أخطار هذه الفئة ولعل العذر الوحيد الذي يغفر لملكشاه سلوكه هذا أنه لم يمتد به العمر طويلاً بعد استيلاء الحسن على قلعة الموت وربما لو أنه مد في أجله لكان من الممكن أن يكون له مواقف أكثر حزماً.
جواب حسن الصبَّاح إلى السلطان ملكشاه السلجوقي :
حرص الحسن الصبّاح على مراسلة السلطان ملكشاه لعله يؤثر فيه أو يجعله يتعاطف معه وإليك شيء من الرسالة : ….
والآن أشرح شيئاً من أحوالي واعتقادي متمنياً أن يصغى السلطان إليّ ويعيرني فكره وأن لا يشاور في أمري من أركان دولته لا سيما ” نظام الملك ” لأن عدائي وخصومتي معهم غير خافية على السلطان، …
ثم بعد ذلك لا بد لي ولا مفر من اتباع رأي الملك المطاع الذي يحصل لديه كلامي ويتحققه من كتابي وإذا خالفت أنا حسن ذلك الرأي السديد فإني أعّد نفسي خارجاً عن دين الإسلام، …
أمّا إذا اتبع السلطان في أمري رأي هؤلاء الخصوم فإنه يجب عليّ حينذاك أن احتاط لنفسي وأفكر في أمري لأن أمامي خصم قوي يجعل الباطل حقاً ويضع الحق محل الباطن، كما فعل كثيراً ولا سيما بالنسبة إليّ فلا يكن ذلك خفّياً عن رأي السلطان وفكره.
أما حال هذا العبد فإن أبي كان مسلماً على مذهب الإمام الشافعي المطلبي، ولمّا بلغت الرابعة من عمري أرسلني أبي إلى المكتب لتحصيل العلوم ولم أبلغ الرابعة عشر حتى مهرت في ساير أنواع العلوم خصوصاً علوم القرآن والحديث ..
ثم جاء دور الدين، فنظرت في كتب الشافعي فرأيت في فضل أولاد النبي صلى الله عليه وسلم وآله وإمامتهم روايات كثيرة، فملت إلى جانبهم وأصبحت أفحص وأتجسس وأفتش عن إمام الوقت، …
ثم بلغ بي الحال بواسطة حكام العصر أن وقعت في أعمال الدين التي يستكبرها ويستعظمها الناس حتى نسيت تلك الفكرة وغفلت عن ذلك الجد والعمل الأولى وأصبح قلبي كله منصرفاً إلى الدنيا وخدمة المخلوق، أمّا عمل الآخرة فقد جعلته ورائي ظهرياً …
ولكن الله تعالى لم يرض لي بذلك فحّرك عليّ خصمائي حتى أخرجوني منه بالقهر والاضطراب فهربت وسحت في البلدان والصحاري وقد لحقتني من ذلك أتعاب وزحمات كثيرة. …
كما لا يخفى على السلطان حالي مع نظام الملك ولمّا أخرجني الله من تلك الهلكة علمت أن الإعراض عن الخالق والتوجه إلى المخلوق لا يثمر إلا كما أثمر لي، لذلك قمت بعزم الرجال إلى العمل الديني وطلب الآخرة …
وانتقلت من الري إلى بغداد وأقمت هناك مدة غير قصيرة حتى أطلعت على الأحوال والأوضاع وتفحصت عن حال الخلفاء وزعماء الدين فرأيت أن هؤلاء العباسيين خارجون عن مراتب المروءة والفتوة الإسلامية حتى أيقنت أن بناء الإسلام والديانة كان قائماً على إمامة هؤلاء وخلافتهم فإن الكفر والزندقة أولى وأحسن من ذلك الدين ،…
فغادرت بغداد إلى مصر وفيها خليفة الحق الإمام المستنصر بالله ففتّشت حاله وقست خلافته بخلافة العباسيين فرأيته أحق فأقررت به ورفضت خلافة العباسيين،…
لذلك فقد أرسل بنو العباس إلى أمير الجيوش ثلاثة بغال ذهباً عدا سواها من الأموال والهدايا وأوعزوا إليه أن يرسل إليهم حسن صباح أو يبعث إليهم برأسه،…
وحيث إن عناية المستنصر كانت تشملني يومذاك فقد نجوت من تلك الهلكة،…(*المقصود هنا : هو المستنصر بالله الخليفة الفاطمي في مصر.)
ثّم لمّا كان العباسيون قد حرّكوا أمير الجيوش وأغروه بالأموال أرتأى ترشيحي إلى الروم داعياً الإفرنج والكفار إلى دين الحق، ولّما سمع الإمام بذلك جعلني في كنفه وتحت رعايته…
ثم بعد ذلك دفع إليّ منشوراً وأمرني بإرشاد الناس إلى طريق الحق بكل ما أوتيت من قوة ومعرفة وأن أطلعهم على إمامة خلفاء مصر وحقيقتهم، فإذا نظر السلطان إلى سعادة ” أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولى الأمر منكم ” ( النساء ، آية : 59). فلابد وأنه لم يعرض..
وجاء في الرسالة أنه قال ..
وأنا حسن صبّاح – بل إن هذا الدين الذي أنا عليه اليوم هو الذي كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسيبقى هذا مذهب الحق حتى يوم القيامة، والآن فإن ديني هو دين الإسلام. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. ..
لم ألتفت إلى الدنيا ولا إلى أعمالها بل كل عمل أعمله وكل قول أقوله لم يكن إلا خالصاً مخلصاً لدين الحق، وإني لأعتقد أن أولاد النبي صلى الله عليه وسلم أحق بخلافة أبيهم من أولاد العباس وأليق بها من غيرهم، …
فإن رضيت أنت (ملكشاه) أن تكون هذه المملكة العظيمة التي تحملت في قبضها واستملاكها هذه الزحمات والمشقّات الكثيرة وبذلت نفوس هاتيك الجنود المجندة حتى ملكتها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن محاذات القطب الشمالي إلى الهند تصبح خارجة من أيدي أولادك ويصبح أولادك مشردين في أنحاء المعمورة أينما وجدوا قتلوا وصلبوا.
أقول : إذا رضيت بهذا فسترضى بالخلافة لهؤلاء، فكيف ببني العباس وهم أناس أذكر لك قليلاً مما شاهدته أنا بنفسي منهم فأقول : إنهم في كل دين ومّلة لا يرتضيهم كل أحد ولن يرتضيهم وإذا حصل من لم يقف على حالهم فيعتقد بهم ويرى أحقية خلافتهم فإني قد وقفت على أعمالهم وأحوالهم كيف يسوغ لي أن أقبلهم وأعتقد بأحقيتهم ؟
فإذا كان السلطان بعد إطلاعه ووقوفه على هذا الحال لن ينهض إلى دفعهم ورفع شرهم عن رؤوس المسلمين فإني لا أعلم كيف يجيب ربه يوم القيامة عندما يسأله عنهم ؟ وكيف ينجو من جوابه ؟
هذا هو ديني منُذ كنت وما دمت حيّاً، لم أنكر ولا أنكر الخلفاء الراشدين الأربعة ولا العشرة المبشرة بل إن حبّهم في قلبي كان ويكون وهو كائن ولم أجد ديناً جديداً لم أكن أتخذته قبلاً ولم أظهر ديناً ومذهباً لم يكن قبلي ، وأن مذهبي هو المذهب الذي كان لدى الصحابة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وسيكون إلى يوم القيامة
والآن نأتي إلى القول بأني وأتباعي قد عصينا بني العباس وطغيناً عليهم : إن كل مسلم مطّلع عارف بدينه وملتّه، كيف لا يشنّع على قوم بدؤهم ونهايتهم كان وهو كائن وسيكون على التزوير والتدليس والفسق والفجور والفساد …
وإن أحوالهم وأفعالهم لم تكن مستورة ومختفية على العالم، غير أني أجملها لتكون لي الحجة على حضرة السلطان، نذكر أولاً أعمال أبي مسلم الخراساني، ذلك الرجل الذي سعى ذلك السعي الحثيث وتحمل تلك الزحمات العظيمة، ولم يبق من عقله وتدبيره وقوته ..
حتى قّصر يد ظلمة بني مروان عن إراقة الدماء وأخذ أموال المسلمين وأزال عن بيت النبوة الطاهر ذلك اللعن الذي كان أليق بهم من آل الرسول، ورفع الظلم عن الدنيا، ثم أقامها بالعدل والإنفاق …
انظر إلى هذا الرجل المحسن كيف غدروا به حتى أراقوا دمه ظلماً وقتلوا الألوف من أولاد رسول الله الطاهرين في أطراف البلاد وأكنافها وخلفّوا الآخرين مشردين وفي الزوايا مختفين حتى خلع بعضهم ثوب السيادة حفظاً لأرواحهم ومات الكثير منهم على ذلك الحال ولم يعرفوا.
ثم لم يبلغوا الخلافة ” أي بنو العباس” حتى شغلوا بشرب المدام والزنا واللواط وقد بلغ فسادهم إلى أن هارون الرشيد وهو أعلمهم وأفضلهم كان يحضر النساء مجلس شرابه ولم يمنع ندماءه من ذلك المجلس حتى إن جعفر بن يحي البرمكي الذي كان من المقيمين في مجلسه قد تصرف أو قل زنى بأخت الرشيد ” العباسية ” وولدت منه ولداً أخفوه عن الرشيد إلى أن حّج في السنين ورآه هناك فقتل جعفراً
وكانت له أخت أصغر منها فائقة الحسن والجمال قد قربها إليه ذات يوم وزني بها .. ومن اللطائف المشهورة : أن الأمين بن الرشيد لمّا ولى الخلافة بعد أبيه قرّب هذه الجميلة إليه وهي عمته فزنى بها ظانا أنها لم تزل بكراً، ولما سألها عن ذلك، أجابتّ : أي بكر في بغداد لم يفضها أبوك حتى يدع أخته بكراً !!
وبالجملة فلو أردنا تعداد أعمال هؤلاء لما وفىّ العمر بعددها، هؤلاء هم الخلفاء وهؤلاء هم أركان المسلمين الذين بهم يكون قوام الملك والمّلة ونظام الدين والدولة فلتعط النصف إذا طعنت بهم أنا أو طعن بهم غيري،
إنّا عصيناهم فهل هذا حق منا أم باطل ؟
وأمّا القول : بأنّا أغرينا الجهّال، فإن من الواضح عند أرباب البصائر أن ليس من شيء أشرف من الروح وما من أحد يعاف نفسه ولا سيما رجل مثلي قليل البضاعة قليل الاستطاعة في إنجاز مثل هذا العمل .
من حدود خراسان جمع من غلمان السلطان ومن النظامية وأرباب المعاملات كانوا قد انحرفوا أكثر من هذا بين المسلمين عن العرف، والمرسوم فبعضهم مّديده إلى عورات المسلمين وحريم الزهّاد والعباد حتى اختطفوا النساء بحضور أزواجهن بعضهم خان معاملات الديوان ولم ينصفه،
وكلمّا استغاث الناس بأركان الدولة لم يغاثوا بل كان البلاء ينزل عليهم وعلى من تكلم وصّرح بحقهّ.هذا ” نظام الملك” مدير المملكة ووزيرها قد قتل الخواجة أبا نصر الكندري وهو الوزير الوحيد الذي لم يعهد مثله في أي ملك وفي أي عصر، إذ كان عاملاً ناصحاً وذلك بتهمة تصرفه من أملاك السلطان وأمواله حتى أعدمه من الوجود.
أمّا اليوم فقد أشرك معه الظلمة في أعماله إذ كان الخواجة أبو نصر يقبض العشرة دراهم فيوصلها إلى الخزينة، أما هذا فإنه يقبض الخمسين درهماً ولا يعرف النصف درهم من أعمال السلطان.
أما ما يصنعه في الطين والآجر في أطراف المملكة فذلك أظهر من الشمس : أين كان للخواجة أبي نصر من ولد أو بنت وهل صرف ديناراً واحداً في الخشب والطين ؟ فهل لهذا العصر مع هذا العجز والصنعة أمل في النجاة ؟
فإذا ما اضطر أحدهم لرفع العار أن يبذل روحه ويتركها ليدفع واحداً أو اثنين من هؤلاء الظلمة فليس ذلك ببعيد وإذا فعل فهو معذور …. فما لحسن الصّباح وهذه القضايا وما حجته بها وما هو نافع له إذا أغرى أحداً وأي عمل من أعمال الدنيا يمكنه إيجاده مالم يتعلق به تقدير سماوي .
وأما أمركم لي بأن أترك هذا النوع وإلاّ نعوذ بالله أن يصدر من عمل يخالف رأي السلطان ولكن لما كان لي أضداد وكانوا يسعون في طلبي، اخترت هذه الزاوية وجعلتها ملجأ لي وسكناً حتى أنهى حالي إلى أعتاب السلطان بعد الكون والدعة واستقرار البال،
فإذ فرغت من أمر خصومي فسأتوجه إلى عتبة حضرة السلطان وأنخرط في سلك خدامة لأعمال بكل ما أوتيت من قوة النصح بما أوجبته النصيحة من تحسين دنيا السلطان وما تبقى من أمر آخرته.
أمّا إذا صدر مني خلاف، ولم أطلع أوامر السلطان فسأكون ملوماً في الدنيا مطعوناً من البعيد والقريب، وسيقال إني خالفت ولي الأمر ولم أحظ بسعادة ” أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولى الأمر منكم ” …. (النساء، آية : 59).
كما أن خصومي سوف يفترون عليّ عند السلطان بما لا علم لي به وينزلون قدري وحريتي لديه، كما يشهرون أعمالي على الناس بالسوء والشفاعة، وإن كانت حسنة حتى يقضوا على سمعتي وذكرى الحسن،…
وإذا قدمت على السلطان ومثّلت بين يديه مع وجود ” نظام الملك ” وخصومته لي وما عمله معي من الظلم، وما سيعمله غير مبال بكل ذلك مضافاً إلى التزام السلطان بمتابعة بني العباس، وعدم مخالفته أوامرهم ونواهيهم …
ومع علمه بسعيهم الخبيث في طلبي والقبض عليّ حتى ذهبت إلى مصر ولم يظفروا بي في الطريق رغم كثرة رسلهم خلفي وجواسيسهم عليّ حتى خدعوا أمير الجيوش وأقنعوه بالأموال ليقصدني…
ولولا عناية المستنصر بالله الخليفة الحق لكنت من الهالكين .. وأخيراً ..
وأخيراً أرسلني أمير الجيوش إلى الإفرنج من طريق البحر لأدعو الكفار إلى الحق، وبفضل الله نجوت أيضاً من تلك الورطة، ثم توجهت إلى العراق بعد جهد جهيد وبعد تلك المشقات والزحمات وكان بنو العباس لم يزالو ساعين في طلبي ..
واليوم وقد بلغت هذا المقام وأظهرت دعوة الخلفاء العلويين وحصلت على عدد من المجتمعات في طبرستان وقهستان والجبال واجتمع حولي كثير من الأحباب والمؤنسين والشيعة والعلويين حتى أصبح بنو العباس يخشون جانبي ويخافون سطوتي،…
وإذا ما تغير مزاج السلطان عليّ وسعى في قصدي لإمكان طلب العباسيين أيّاي منه لا يعلم ماذا سيكون وماذا سيحدث، وإذا حدث شيء على أي نوع كان فإنه لا يخلو من شناعة..
إذ لو أجابهم السلطان إلى طلبهم فإنه لا يعذر في شرع المروءة والإنصاف وإن لم يجب التماسهم تقّول عليه بعض الجهال ونالوا منه وامتد على السلطان لسان التشنيع وقيل فيه : ” ما هذه الغاشية التي تحملها السلطان منهم وما هو عدم تسليمه حسن صباح لهم .
ومن المحتمل أيضاً أن تحصل بينهم المقاومة والنزاع وفي الأخير لا تعلم نهاية الأمر.
وأما حديث ” سرسنك ” وأمركم بأنه لو كان برجاً من بروج السماء .. فإن أهالي سرسنك يعتقدون ويثقون من قول الدهر الحق ، بأن هذا البرج لا يخرج من أيديهم إلى زمن بعيد ومدة قصيرة لأنه يتعلق بعناية الله تعالى،..
والآن وأنا قابع في هذه الزاوية عاملاً بكل فرض وسنة أرجو وأطلب من الله تعالى ورسوله أن يهتدي السلطان وأركان دولته إلى طريق الصواب، وأن يرزقهم الله دين الحق وأن يرفع فسق بني العباس وفجورهم عن الناس .
وفي هذه الرسالة محاولة من حسن الصباح لزعزعة ملكشاه في معتقده في البيت العباسي والخلافة العباسية وحشد لها أكاذيب وأباطيل، كما أراد أن يضعف العلاقة بين ملكشاه ونظام الملك وعمل على التأثير الفكري والعقائدي على السلطان نفسه .
ولا ندري مدى تأثير هذه الرسالة على ملكشاه وإن كان ابن الجوزي ذكر عن ابن عقيل؛ أن السلطان ملكشاه، كان قد فسدت عقيدته بسبب معاشرته بعض الباطنيّة، ثم تَنَصَّل من ذلك ورجع إلى الحق ، وهذا يظهر خطورة الدعوات الباطنية الباطلة على حكام المسلمين والنخب وإن كانوا صالحين مالم يتحصنوا بعقيدة أهل السنة والجماعة ويتواصلوا مع العلماء الربانيين،
وسنرى فيما بعد أثر الرسائل في دعوة الآخرين والتأثير عليهم سلباً أو إيجاباً والذي يبدو أن هيبة الخليفة والخلافة العباسية قد زالت من نفس السلطان ملكشاه، فقد عزم على نفي الخليفة من بغداد وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله.
—-‐———‐——————————————–‐———
كما هو واضح يمتاز حديثه بالإطالة و الإسهاب و كثرة الكذب والوقاحة .. ولا يخلو من الغرور والإرهاب و التقية و الخداع ..و الملاحظ أيضا أن دعوته تقوم على التنفير من الجنس العربي و تمجيد الجنس الفارسي.. و مازال هذا أسلوبهم لليوم ..
ويشير المؤلف الى التهم التي أوردها بحق العباسيين فيقول في الهامش :
(هذه من الروايات التاريخية الموضوعة والضعيفة ونلاحظ توظيف حسن الصباح لأكاذيب أسلافه لأضلال الناس ونرى حقارة أخلاق الباطنية في بهتان رموز الأمة كهارون الرشيد وغير والدفاع عن المجرمين كأبي مسلم الخراساني.
و هذه من الأكاذيب التي دست في سيرة هارون الرشيد.)
***جواهر
—-‐———‐——————————————–‐———
️دولة الإسماعيلية في إيران
لم يكد الحسن الصباح يستولي على قلعة الموت حتى بادر بالاستيلاء على القلاع المجاورة، فأطلق دعاته لتحقيق هذا المأرب .
ولم يمض وقت طويل حتى كان الصباح قد استولى على المنطقة الواقعة جنوبي بحر قزوين برمتها بعد أن سيطر دعاته على القلاع المتناثرة في أرجائها، والتي تبلغ نحو الستين قلعة،..
كانت هذه القلاع تقع في الغالب وسط وديان صالحة للزراعة وبالقرب من موارد ثابتة للمياه، فالملاحظ أن القلاع الرئيسية في أراضي الإسماعيلية كانت تقع بالقرب من نهر ” شاهرود ” وفروعه ،
وكانت القلعة تكون وحدة اقتصادية عسكرية مستقلة بذاتها، يعيش أهلها معتمدين على أنفسهم في زراعة الأرض والدفاع عن القلعة وما حولها في مواجهة أي غزو أو اعتداء،
ولقد كان للوفرة والتنوع الذي امتازت به المحاصيل التي يمكن أن تزرع في هذه المنطقة أكبر الأثر في تحقيق استقلالها وتكاملها الاقتصادي وكانت المحاصيل تزرع في الأرض المحيطة بالقلاع، ..
ويبدو أن الإسماعيلية كانوا يضطرون إلى الامتناع بقلاعهم في أثناء الحملات التي كان يشنها عليهم أعداؤهم ويتركون الأراضي المنزرعة حول القلعة دون حماية مما كان يعرض محاصيلهم ومزروعاتهم للنهب والغارة والتلف،
ولكن ذلك لا يعني أن هذه القلاع كانت تعيش في معزل عن بعضها البعض أو يحكمها مقدموها دون رقيب أو معقب، وإنما كانت كل واحدة من هذه القلاع تكون وحدة محلية تابعة للسلطة المركزية في قلعة الموت، فقد كان رؤساء هذه القلاع يتبعون مباشرة الحاكم الإسماعيلي في قلعة الموت الذي كان يمثل السلطة العليا ، …
وكانت المناطق التي تسيطر عليها هذه القلاع جميعاً تمثل رقعة واحدة من الأرض تقع جنوبي بحر قزوين وتمتد فتشمل الطالقان في الجنوب الشرقي حتى حدود قزوين جنوباً كما تمتد غرباً حتى بهرام آباد ورودبار على الحدود المتاخمة لشرقي آذربيجان ..
وذلك يعني أن المناطق التي سيطر عليها الإسماعيلية كانت ذات حدود سياسية تفصلها عن المناطق المجاورة لها والتي تقع تحت سيطرة غيرهم، غير أن هناك ولاية تقع خارج نطاق هذه الحدود استطاع الإسماعيلية الاستيلاء عليها وهي ولاية قهستان ، المجاورة لخراسان منُذ سنة 484ﻫ، فأصبحت تابعة للدولة، وظل حكامها المحليون يتبعون ملوك الإسماعيلية في الموت حتى قضى عليهم المغول .
———————————————————————
التسلل الباطني في العراق ص162 ، 163. ص 164.
*الشونيز : الحبة السوداء.
البداية والنهاية (16/175).
نظام الملك، عبد الهادي محمد رضا ص 605.
*الغلصمة : رأس الحلقوم بشواربه.
البداية والنهاية 016/176).
المنتظم (9/121).
التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني ص 136.
نظام الملك ص 610 ، 611.ص 612.ص 613.
البداية والنهاية (16/133).
دولة الإسماعيلية في إيران ، محمد السعيد ص 95. ص 96. ص 97.
☆ السلاجقة د. علي الصلابي ص 110 -117
———————————————————————
نظام الملك ومشروعه في محاربته للمد الباطني الفقرة التالية ان شاء الله
تاريخ السلاجقة والدانشمند جواهر (17)